حيث تمرّده وكفرانه نعم المولى معا.
الثانية : هل المثوبة والعقوبة تقتضيان الدوام والأبديّة؟ فلا مثوبة إلّا وهي دائمة ولا عقوبة إلّا وهي خالدة؟!
قالت المعتزلة : نعم! ومن ثمّ جعلوا من الفاسق خالدا في النار.
ودليلهم على ذلك هو : قياس المثوبة والعقوبة بالمدح والذمّ ، فكما أنّهما دائميّان ، كذلك لازمهما من الثواب والعقاب ؛ قالوا : ولأنّه إذا انقطع عقاب العاصي ودخل الجنّة كان ذلك تفضّلا عليه ، ولا تفضّل على المكلّفين ، وإنّما هو خاصّ بالأطفال والمجانين (١).
وبهذه الطريقة حاولوا إثبات الإحباط ، لئلّا يعود المعاقب على معصيته مثابا على طاعته ، فينتقض دوام العقاب بشأنه ، كما يكون ثوابه المتأخّر تفضّلا فيما زعموا. وهذان ممّا يتحاشونهما البتّة (٢).
قلنا : لا خلود في النار إلّا للكفّار (٣) ، أمّا العصاة من المؤمنين الّذين احتفظوا بإيمانهم حتّى الممات فمرجون لأمر الله ، إمّا يعذّبهم حسب استحقاقهم ، عذابا يتناسب مع نوعية العصيان الّذي ارتكبوه ، وإمّا يتوب عليهم والله عليم حكيم (٤).
قال تعالى ـ بشأن العصاة من المؤمنين ـ : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥). قوله : (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) اعترافا منبعثا عن إيمانهم بالله ، حيث المؤمن هو الّذي يرى من أعماله السيّئة عصيانا له تعالى ، فهو دليل على شدّة احتفاظهم بأصول الإيمان ، وإن كانوا ارتكبوا ما ارتكبوا من قبائح. الأمر الّذي وفّر عليهم من شرائط الغفران!
وأمّا قياس الثواب والعقاب بالمدح والذمّ ، ففي أصل الاستحقاق لا شكّ فيه. فمن استحقّ مدحا على عمل استحقّ ثوابا عليه ، وكذا الذمّ والعقاب. أمّا قياس دوام أحدهما على دوام الآخر
__________________
(١) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار : ٦٦٦ ـ ٦٦٧.
(٢) المصدر : ٦٢٤.
(٣) قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) العنكبوت ٢٩ : ٢٣.
(٤) مقتبس من الآية الكريمة ١٠٦ من سورة براءة.
(٥) التوبة ٩ : ١٠٢.