وقال الفخر الرازي : أمّا قوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى) ففيه وجوه :
أحدها : أنّ الحاجّ يرجع مغفورا له ، بشرط أن يتّقي الله فيما بقي من عمره ، ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب! ومعناه : التحذير من الاتّكال على ما سلف من أعمال الحجّ. فبيّن ـ تعالى ـ أنّ عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحجّ السابق.
وثانيها : أنّ هذه المغفرة إنّما تحصل لمن كان متّقيا قبل حجّه ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(١). وحقيقته أنّ المصرّ على الذنب لا ينفعه حجّه ، وإن كان قد أدّى الفرض في الظاهر!
وثالثها : أنّ هذه المغفرة إنّما تحصل لمن كان متّقيا عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجّ ، كما :
[٢ / ٥٧٧٧] روي في الخبر من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» (٢).
قال : واعلم أنّ الوجه الأوّل إشارة إلى اعتبار الاتّقاء في الحال. والتحقيق أنّه لا بدّ من الكلّ.
ثمّ قال : وقال بعض المفسّرين : المراد بقوله : (لِمَنِ اتَّقى) ما يلزمه من التوقّي عنه في الحجّ ، من قتل الصيد وغيره ، لأنّه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوما ، وربما صار عمله محبطا!
قال : وهذا ضعيف من وجهين :
الأوّل : أنّه تقييد للّفظ المطلق بغير دليل.
الثاني : أنّ هذا لا يصحّ إلّا إذا حمل على ما قبل هذه الأيّام ، لأنّه في يوم النحر ـ بعد أن رمى وطاف وحلق ـ تحلّل قبل رمي الجمار ، فلا يلزمه اتّقاء الصيد إلّا في الحرم ، لكن ذاك ليس للإحرام. لكن اللفظ مشعر بأنّ هذا الاتّقاء معتبر في هذه الأيّام ، فسقط هذا الوجه! (٣).
***
قلت : وما هذا التشويش والاضطراب إلّا لأنّهم لم يمعنوا النظر في ملابسات الآية وسياق
__________________
(١) المائدة ٥ : ٢٧.
(٢) الدرّ ١ : ٥٣٠ ؛ البخاري ٢ : ١٤١ ؛ مسلم ٤ : ١٠٧ ؛ الترمذي ٢ : ١٥٣ / ٨٠٨ ؛ ابن ماجة ٢ : ٩٦٤ ـ ٩٦٥ / ٢٨٨٩.
(٣) التفسير الكبير ٥ : ١٩٥ ـ ١٩٦.