تألفت تراكيبه ، وعلى قواعدهم العامة فى صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه ، ولكن المعجز والمدهش والمثير لأعجب العجب ، أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذى عهده ، ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التى توافروا على معرفتها ، وتنافسوا فى حلبتها ، وبلغوا الشأو الأعلى فيها ، نقول. إن القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله ، قد أعجزهم بأسلوبه الفذ ، ومذهبه الكلامى المعجز! ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذى يعرفونه ، لأمكن أن يلتمس لهم عذر أو شبه عذر ، وأن يسلم لهم طعن أو شبه طعن. (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة فى غير آية. فقال جل ذكره فى سورة يوسف (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقال فى سورة الزخرف : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقال فى سورة الزمر : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
مثال لهذا الفارق :
وبما أن الأمر قد اشتبه على بعض الناس حتى ضلوا فيه أو كادوا ، نمثل للفرق بين الأسلوب وبين المفردات والتركيب بمثالين حسيين أحدهما صناعة الخياطة ، والآخر صناعة الصيدلة أو تحضير العقاقير والأدوية : فالخياطون يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا ما بين خامل ونابه فى صنعته ، وضعيف وبارع فى حرفته. وهذا الاختلاف لم يجئ من ناحية مواد الثياب المخيطة ، ولا من ناحية الآلات والأدوات والطرق العامة التى تستخدم فى الخياطة. إنما جاء الاختلاف من جهة الطريقة الخاصة التى اتبعت فى اختيار هذه المواد وتأليفها واستخدام قواعد هذه الصناعة فى شكلها وهندستها. وكذلك الصيادلة يختلفون فيما بينهم نباهة وخمولا. وبراعة وقصورا. لا من حيث مواد الأدوية وعناصرها ، ولا من حيث القواعد الفنية العامة فى تركيبها ، بل من حيث حسن اختيار هذه المواد ، ودقة تطبيق هذه القواعد فى تحضير العقاقير والأدوية ، حتى لقد نشاهد أن مزاج الجيد منها وأثره ونفعه ، يختلف بوضوح عن مزاج الردىء منها وأثره وضرره. وقل مثل هذا فى كل ما حولك من صناعات يختلف فيها الصناعون ومصنوعاتهم جودة ورداءة مع اتحاد مواد الصناعة الأولى وقواعدها العامة فى الجميع.