قد يكون السؤال ـ كما أسلفناه ـ عن الأهلّة : ظهورها ونموّها وتناقصها. ما بالها تختلف في ظهورها؟ وفي بعض الروايات (١) : السؤال عن مثل ذلك.
وقد يكون سؤالا عن أصل خلقتها والحكمة فيها؟ كما روي : أنّهم قالوا : يا رسول الله ، لم جعلت الأهلّة؟ (٢) وربما كان السؤال في صيغته الأخيرة أقرب إلى طبيعة الجواب : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ). إنّها تنفعهم في حلّهم وإحرامهم وفي صومهم وفطرهم وفي النكاح والطلاق والعدد ، وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم وما شاكل من أمور دينهم ودنياهم على سواء.
وعلى كلا التقديرين فالجواب متّجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرّد العلم النظري ، وحدّثهم عن وظيفة الأهلّة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدّثهم عن الدورة الفلكيّة للقمر وكيف تتمّ ، وعن دور القمر في المجموعة الشمسيّة أو في توازن حركة الأجرام السماويّة وما إلى ذلك.
إنّ العلم النظري من هذا الطراز بحاجة إلى مقدّمات وتمهيدات ، ربما كانت بالقياس إلى عقليّة العالم كلّه في ذلك الزمان ، معضلات. ومن هنا عدل عن الإجابة الّتي لم تتهيّأ لها البشريّة ، ولا تفيدها في المهمّة الّتي جاء القرآن من أجلها.
مقارنة بين القرآن والنظريّات العلميّة
القرآن جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئيّة ، لم يجىء ليكون كتاب علم فلكيّ أو كيماويّ أو طبّيّ ، كما يحاول بعض المتحمّسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم ، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يلتمسوا مخالفاته لهذه العلوم!
إنّ كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله ؛ إنّ مجاله هو النفس الإنسانيّة والحياة الإنسانيّة. إنّ وظيفته أن ينشىء تصوّرا عامّا للوجود وارتباطه بخالقه ، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربّه ، وأن يقيم على أساس هذا التصوّر نظاما
__________________
(١) انظر : ابن عساكر ١ : ٢٥ ، فيما أخرجه عن ابن عبّاس ؛ والثعلبي ٢ : ٨٥ ـ ٨٦ ؛ وابن أبي حاتم ١ : ٣٢٢ / ١٧٠٧ ؛ والحاكم ١ : ٤٢٣ ، والبيهقي ٤ : ٢٠٥ ، ومسند أحمد ٤ : ٢٣ ، الدار قطني ٢ : ١٤٣ / ٢٩.
(٢) انظر : الطبري ٢ : ٢٥٣ / ٢٥١٠ ؛ والدرّ ١ : ٤٩٠ ، عن قتادة. وابن أبي حاتم ١ : ٣٢٢ / ١٧٠٨ عن أبي العالية : «لم خلقت الأهلّة»؟