قلنا : لا موضع لهذه الاستفادة بعد أن كانت الآية نزلت تعريضا بشأن جاهليّة العرب كانوا إذا وقفوا بالموقف ذكروا آباءهم ونوّهوا بأمجاد جاهليّة تفاخرا على بعضهم ، وإذا سألوا الله شيئا لم يتجاوزوا مطاليب سافلة : إبلا وغنما ورقيقا وظفرا على أعداء ، ولا يسألونه الجنّة والمغفرة والرضوان ، حيث فقد العقيدة بالبعث والنشور (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(١). ومن ثمّ ذكر تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)!
ولا شكّ أنّ الّذي لا خلاق له في الآخرة هو الكافر المحض ـ حسبما تقدّم ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً). أمّا الفئة الأخرى ـ وهم المؤمنون بيوم المعاد ـ فيسألون الله تعالى خير الدنيا والآخرة والمغفرة والنجاة من النار ، فهؤلاء لهم نصيب في الآخرة : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢).
[٢ / ٦٢١١] قال ابن عبّاس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهمّ اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا. فأنزل الله فيهم : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فأنزل الله فيهم : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).
[٢ / ٦٢١٢] وعن مجاهد : كان أهل الجاهليّة إذا اجتمعوا بالموسم ذكروا فعل آباءهم في الجاهليّة وأيّامهم وأنسابهم فتفاخروا ، فأنزل الله ... إلخ.
[٢ / ٦٢١٣] وعن ابن الزبير : كان الناس في الجاهليّة إذا وقفوا بالمشعر الحرام دعوا فقال أحدهم : اللهمّ ارزقني إبلا. وقال الآخر : اللهمّ ارزقني غنما ، فأنزل الله ... إلخ.
[٢ / ٦٢١٤] وعن السدّي : كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى ، لا يذكر الله الرجل منهم ، وإنّما يذكر أباه ، ويسأل أن يعطى في الدنيا (٣).
[٢ / ٦٢١٥] وعن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهالسلام : «إنّهم كانوا يجتمعون ، يتفاخرون
__________________
(١) المؤمنون ٢٣ : ٣٧.
(٢) آل عمران ٣ : ١٧١.
(٣) الطبري ٢ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ / ٣٠٧٥ ؛ الدرّ ١ : ٥٥٧ ؛ أسباب النزول للواحدي : ٣٩.