صدام ولا خصام ، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطّاقة. وقوى الكون كلّه تتجمّع إلى قوّته ، وتهتدي بالنور الّذي يهتدي به ، وتتّجه إلى الله وهو معها يتّجه إلى الله.
والتكاليف الّتي يفرضها الإسلام على المسلم كلّها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبّيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء. ومن ثمّ لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله ، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الّذي ينشئه هذا المنهج الربّاني ، في ظلّ النظام الّذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة ، والضمانات الّتي يحيط بها النفس والعرض والمال. كلّها ممّا يشيع السلم وينشر روح السّلام.
هذا المجتمع المتوادّ المتحابّ المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الّذي حقّقه الإسلام مرّة في أرقى وأصفى صوره. ثمّ ظلّ يحقّقه في صور شتّى على توالي الحقب ، تختلف درجة صفائه ، ولكنّه يظلّ في جملته خيرا من كلّ مجتمع آخر صاغته الجاهليّة في الماضي والحاضر ، وكلّ مجتمع لوّثته هذه الجاهليّة بتصوّراتها ونظمها الأرضية!
هذا المجتمع الّذي تربطه آصرة واحدة ـ آصرة العقيدة ـ حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان ، واللّغات والألوان ، وسائر هذه الأواصر العرضيّة الّتي لا علاقة لها بجوهر الإنسان.
هذا المجتمع الّذي يسمع الله يقول له : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(١).
[٢ / ٥٨٦٩] والّذي يرى صورته في قول النبيّ الكريم : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (٢).
هذا المجتمع الّذي من آدابه : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)(٣). (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٤). (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
__________________
(١) الحجرات ٤٩ : ١٠.
(٢) مسند أحمد ٤ : ٢٧٠ ؛ مسلم ٨ : ٢٠.
(٣) النساء ٤ : ٨٦.
(٤) لقمان ٣١ : ١٨.