(التعهّد الإنسانيّ النبيل) ميزان الاتّصال بالله وذكره وتقواه (١).
ثمّ القرآن يزن مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان الجديد : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) : إنّما يبتغي حسن العاجلة الزائلة ويتغافل الحياة الباقية السعيدة في جنب الله. (أَوْ) من ثمّ (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي حظّ ونصيب.
فقد ورد أنّهم كانوا يقولون ـ عندما يأتون الموقف ـ : «اللهمّ اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن» (٢). لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا.
وهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والأمصار ، النموذج الّذي همّه الدنيا وحدها ، يذكرها حتّى حين يتوجّه إلى الله بالدعاء ، لأنّها هي الّتي تشغله ، وتملأ فراغ نفسه ، وتحيط عالمه وتغلقه عليه. ذاهلا عن الحياة الأخرى كلّ الذهول.
ومن ثمّ فقد يمنحهم الله بعض نصيبهم من الدنيا حيث رضوا بها ، واطمأنّوا إليها. ولكن لا نصيب لهم في الآخرة إطلاقا ، حيث لم تبد منهم رغبة فيها. ولا عرضة لغير طلب.
***
وهناك نموذج آخر من الناس ، أفسح أفقا ، وأكبر نفسا ، يرى من الدنيا والآخرة متلازمين ، وأنّ هذه الحياة القصيرة تستهدف حياة هي أوسع وأرقى وأدوم. حيث لقاء الله. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(٣).
فلم تكن عمارة الأرض لوحدها الهدف من الحياة. وإنّما هي مشرعة إلى منهل عذب آخر رحيق : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٤).
ومن ثمّ فالرابح من جمع الدنيا مع الآخرة ، وطلب الحسنى في كلتا الدارين : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).
إنّهم يرغبون إلى الله في حسن حالهم في الدارين ، ولا يحدّدون نوع الحسنة ، بل يدعون اختيارها إلى المولى الكريم ، ومن ثمّ فلهؤلاء نصيب مضمون. (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي نتيجة أعمالهم الصالحة في هذه الحياة. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي سريع الإجابة على قدر ما بذلوا
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.
(٢) يأتي الحديث عنه.
(٣) الانشقاق ٨٤ : ٦.
(٤) العنكبوت ٢٩ : ٦٤.