قال أبو جعفر الطبري : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ أمر بالإنفاق في سبيله بقوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وسبيله : طريقه الّذي شرعه لعباده وأوضحه لهم.
ومعنى ذلك : وأنفقوا في إعزاز ديني الّذي شرعته لكم ، بجهاد عدوّكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي ، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، فقال : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). وذلك مثل ، والعرب تقول للمستسلم للأمر : أعطى فلان بيديه ، وكذلك يقال للممكّن من نفسه ممّا أريد به : أعطى بيديه. فمعنى قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) : ولا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمّتكم فتهلكوا. والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه ، مستسلم للهلكة ، بتركه أداء فرض الله عليه في ماله. وذلك أنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله ، فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) إلى قوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه ، كان للهلكة مستسلما وبيديه للتهلكة ملقيا. وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف منه ، ملق بيديه إلى التهلكة ، لأنّ الله قد نهى عن ذلك فقال : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ). وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم في حال وجوب ذلك عليه ، في حال حاجة المسلمين إليه ، مضيّع فرضا ، ملق بيده إلى التهلكة. فإذا كانت هذه المعاني كلّها يحتملها قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، ولم يكن الله ـ عزوجل ـ خصّ منها شيئا دون شيء ، فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إنّ الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا ، والاستسلام للهلكة ، وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه ، فغير جائز لأحد منّا الدخول في شيء يكره الله منّا ممّا نستوجب بدخولنا فيه عذابه. غير أنّ الأمر وإن كان كذلك ، فإنّ الأغلب من تأويل الآية : وأنفقوا أيّها المؤمنون في سبيل الله ، ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي (١).
__________________
(١) الطبري ٢ : ٢٨٠.