فصل في معنى الآية
ومعنى الكلام : لو كنت جافيا ، سيّىء الخلق ، قليل الاحتمال.
وقال الكلبيّ : فظا في القول ، غليظ القلب في الفعل ، لانفضوا من حولك وتفرّقوا عنك وذلك أن المقصود من البعثة أن يبلّغ الرسول تكاليف الله تعالى إلى الخلق ، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه ، وسكون نفوسهم لديه ، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما بهم ، كريما ، يتجاوز عن ذنوبهم ، ويعفو عن سيئاتهم ، ويخصهم بالبرّ والشفقة ، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرّءا عن سوء الخلق ، وغلظة القلب ، ويكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء ، وكثير القيام بإعانة الفقراء.
وحمل القفّال هذه الآية على واقعة أحد ، فقال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) يوم أحد ، حين عادوا إليك بعد الانهزام (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) فشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) هيبة منك وحياء ، بسبب ما كان منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم.
قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) جاء على أحسن النسق ، وذلك أنه ـ أولا ـ أمر بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصّة نفسه ، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى ، لتنزاح عنهم التبعات ، فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذا صاروا خالصين من التبعتين ، مصفّين منهما.
والأمر هنا ـ وإن كان عاما ـ المراد به الخصوص. قال أبو البقاء : الأمر ـ هنا ـ جنس ، وهو عامّ يراد به الخاصّ ؛ لأنه لم يؤمر بمشاورتهم في الفرائض ، ولذلك قرأ ابن عباس (١) : في بعض الأمر وهذا تفسير لا تلاوة.
فصل
ظاهر الأمر الوجوب ، و «الفاء» في قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) تدل على التعقيب ، وهذا يدل على أنه ـ تعالى ـ أوجب عليه صلىاللهعليهوسلم أن يعفو عنهم في الحال ، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم إليه ، فقال : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٣٤] وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يدل دلالة قوية على أنه ـ تعالى ـ يعفو عن أصحاب الكبائر ، لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : ١٦] وقوله صلىاللهعليهوسلم حين عد الكبائر ـ : «والتولي يوم الزحف» وإذا ثبت أنه كبيرة ، فالله تعالى ـ حضّ ـ في هذه الآية ـ على العفو عنهم ، وأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بالاستغفار
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ١٠٥ ، والدر المصون ٢ / ٢٤٦.