الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال ، والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة.
التأويل الثاني : أن يكون المراد من الصّبر والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم. فالصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي. وقوله : (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : من صواب التدبير والرشد الذي ينبغي لكل عاقل أن يقدم عليه.
وقيل : (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : من حق الأمور وخيرها.
وقال عطاء : من حقيقة الإيمان.
قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)(١٨٧)
في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه ـ تعالى ـ لما حكى عنهم الطعن في نبوّته صلىاللهعليهوسلم وأجاب عن ذلك ، بيّن في هذه الآية التعجّب من حالهم.
والمعنى : كيف يليق بكم الطعن في نبوّته صلىاللهعليهوسلم وكتبكم ناطقة بأنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدقه ونبوته؟
ثانيهما : أنه لما أوجب عليه احتمال الأذى من أهل الكتاب ـ وكان من جملة أذاهم كتمان ما في التوراة والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوّته ، وتحريفها ـ بيّن أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر.
قوله : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وأبو بكر بالياء ، جريا على الاسم الظاهر ـ وهو كالغائب ـ وحسّن ذلك قوله ـ بعده ـ : «فنبذوه» والباقون بالتاء (١) ؛ خطابا على الحكاية ، تقديره : وقلنا لهم ، وهذا كقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ) [البقرة : ٨٣] بالتاء والياء كما تقدم تحريره.
قوله : (وَلا تَكْتُمُونَهُ) يحتمل وجهين :
أحدهما : واو الحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، أي : لتبيننّه غير كاتمين.
الثاني : أنها للعطف ، والفعل بعدها مقسم عليه ـ أيضا ـ وإنما لم يؤكّد بالنون ؛ لأنه منفيّ ، كما تقول : والله لا يقوم زيد ـ من غير نون ـ وقال أبو البقاء : «ولم يأت بها
__________________
(١) انظر : السبعة ٢٢١ ، والحجة ٣ / ١١٦ ، وحجة القراءات ١٨٥ ، والعنوان ٨٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٨٢ ، وشرح شعلة ٣٢٩ ، وإتحاف ١ / ٤٩٧.