تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد ؛ ليعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ، ونالوا من الكرامة ما نالوا هم ؛ فلذلك يستبشرون.
وقال الزّجّاج وابن فورك : الإشارة ـ بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم ـ إلى جميع المؤمنين ـ وإن لم يقتلوا ـ ولكنهم لما عاينوا ثواب الله وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحقّ الذي يثيب الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيه وجهان :
أحدهما : أن «أن» وما في حيّزها في محل جرّ ، بدلا من «بالذين» بدل اشتمال ، أي يستبشرون بعدم خوفهم وحزنهم ، فهو المستبشر به في الحقيقة ، لأن الذوات لا يستبشر بها.
الثاني : أنها في محل نصب ؛ على أنها مفعول من أجله ، أي : لأنهم لا خوف عليهم.
و «أن» ـ هذه ـ هي المخفّفة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النفي بعدها في محل الخبر. فإن قيل : الذوات لا يستبشر بها ـ كما تقدم ـ فكيف قال : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا)؟
فالجواب أن ذلك على حذف مضاف مناسب ، تقديره : ويستبشرون بسلامة الذين ، أو لحوقهم بهم في الدرجة.
وقال مكيّ ـ بعد أن حكى أنها بدل اشتمال ـ : ويجوز أن يكون في موضع نصب ، على معنى: بأن لا وهذا ـ هو بعينه ـ وجه البدل المتقدّم ، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهمّ إلا أن يعني أنها ـ وإن كانت بدلا من «الذين» ـ ليست في محل جرّ ، بل في محل نصب ، لأنها سقطت منها الباء ؛ فإن الأصل : بأن لا ، وإذا حذف منها حرف الجر كانت في محل نصب ـ على رأى سيبويه والفرّاء ـ وهو بعيد.
قوله تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٧٢)
لما بيّن ـ تعالى ـ انهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ، بيّن ـ هنا ـ أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم ، ولذلك أعاد لفظ الاستبشار.
فإن قيل : أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم ـ والفرح عين الاستبشار ـ فلزم التكرار؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن الاستبشار هو الفرح التامّ ، فلا يلزم التكرار.