واعلم أنه ـ تعالى ـ أجاب عن هذه الشّبهة ، فقال : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) والمراد أسلافهم ، فبيّن ـ بهذا الكلام ـ أنهم إنما يطلبون ذلك على سبيل التعنّت ، لا على وجه الاسترشاد ، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم.
فإن قيل : لم قال : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ) ولم يقل : جاءتكم رسل؟
فالجواب : أن فعل المؤنث يذكّر إذا تقدمه جمع تكسير.
والمراد بقوله : (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) هو ما طلبوه منه ، وهو القربان.
فإن قيل : إن القوم إنما طالبوه بالقربان ، فما الحكمة في أنه أجابهم بقوله : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) ثم أضاف إليه قوله : (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وهو القربان؟
فالجواب : أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم لو قال لهم : إن الأنبياء المتقدمين أتوا بالقربان لم يلزم من ذلك وجوب الاعتراف بنبوتهم ؛ لاحتمال أن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة ، لا موجب لها ، والشرط هو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط ، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الإلزام واردا عليهم ، فلما قال : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) كان الإلزام واردا عليهم ؛ لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للصدق ، ولما أتوا بالقربان فقد أتوا بالشرط ، فعند الإتيان بهما وجب الإقرار بالنبوة.
قال القرطبيّ ـ في معنى الآية ـ : «قل» يا محمد (قَدْ جاءَكُمْ) يا معشر اليهود (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) يعني زكريا ويحيى وشعيبا وسائر من قتلوا من الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ ولم يؤمنوا بهم.
أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبيّ ، واحتج بها على الذي حسّن قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وأن الله تعالى سمي اليهود ـ لرضاهم بفعل أسلافهم ـ وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة.
قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ)(١٨٤)
قوله : (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ) ليس جوابا ، بل الجواب محذوف ، أي : فقل ، ونحوه ؛ لأن هذا قد مضى وتحقّق ، والجملة من «جاءوا» في محل رفع ، صفة ل «رسل» و «من قبلك» متعلق ب «كذّب» والباء في «بالبيّنات» تحتمل الوجهين ، كنظيرتها.
ومعنى الآية : فإن كذبوك في قولك : إنّ الأنبياء المتقدمين أتوا بالقربان.
ويحتمل أن يكون المعنى : فإن كذبوك في أصل النبوة ـ وهو أولى ـ والمراد بالبينات المعجزات.