بإيمانهم ـ ثم كفروا ـ حزن صلىاللهعليهوسلم عند ذلك ؛ لفوات التكثير بهم ، فآمنه الله من ذلك ، وعرّفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير.
وقيل : المراد رؤساء اليهود ـ كعب بن الأشرف وأصحابه ـ كتموا صفة محمد صلىاللهعليهوسلم لمتاع الدنيا(١). قال القفّال ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار ؛ لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) [المائدة : ٤١]. فإن قيل : الحزن على كفر الكافر ، ومعصية العاصي طاعة ، فكيف نهاه الله عن الطاعة؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه كان يفرط في الحزن على كفر قومه ، حتّى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به ، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه ، كما قال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].
الثاني : أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ، ويعينوا عليك ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) يعني : أنهم لا يضرون ـ بمسارعتهم في الكفر ـ غير أنفسهم ، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة.
ثم قال : (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) وهذا تنصيص وردّ على المعتزلة بأنّ الخير والشر بإرادة الله تعالى ، وتدل الآية ـ أيضا ـ على أنّ النكرة في سياق النّفي تعم ؛ إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية ، ثم قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهذا كلام مبتدأ والمعنى : أنه كما لا حظّ لهم ألبتة من منافع الآخرة ، فلهم الحظّ العظيم من [مضارّها](٢).
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٧)
اعلم أنه لا يبعد حمل الآية الأولى على المرتدين ، وحمل هذه الآية على اليهود. ومعنى : (اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أنهم كانوا يعرفون النبي صلىاللهعليهوسلم ويؤمنون به قبل مبعثه ، فلما بعث كفروا به ، وتركوا ما كانوا عليه ، فكأنهم أعطوا الإيمان ، وأخذوا الكفر بدلا عنه ، كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه.
ولا يبعد أيضا ـ حمل هذه الآية على المنافقين ؛ لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان ، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا ، وتركوا الإيمان ، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.
__________________
(١) انظر المصدر السابق.
(٢) في أ : مضار الآخرة.