لا يستغنى في الاستبصار في أصول الدين عن صناعة الكلام التي هي صناعة البحث والنظر. وكان السلف الصالح من أهلها إنما شغلوا أنفسهم باستعمالها ، والإقبال عليها ؛ ليصيروا بها متمهرين بالمشاركة بين الملل (١) المختلفة ، والنحل المتغايرة ، ويعرفوا بذلك الفضل الذي يحصل لدين الإسلام على ما سواه من الأديان فيكونوا على يقين من أمرهم على ما يعتقدونه من أصول دينهم (٢) ، وليكونوا على بصيرة ، كما اشترط الله على رسوله في قوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (٣) ، وليقوموا بمجادلة الملحدين الخاطئين على الإسلام إذا قصدوا الإلحاد فيه ، والغض منه ، إذ كان الجهاد مقتسما قسمين : أحدهما الذبّ عنه باللسان ، والآخر الذب عنه باليد. والذب باللسان أبلغ في نصره وتأييده في كثير من الأحوال (والأوقات) (٤). وكانوا يتعاطون هذه الصناعة حسبة وابتغاء للقربة إلى الله تعالى ، والزلفة لديه. ثم حدّت قوم من متعاطييها سلكوا فيها سبيل من تقدم ، بالمباهاة باللدد (٥) في باب الجدال لقطع الخصوم والاستعلاء في مجالس المناظرة لكي يذكر بالتبريز فيها ، وقلة الاحتفال عند خوف الانقطاع ، ولزوم الحجة بحمل النفس على الدعاوى الشنيعة والاعتلالات المستكرهة ، والشذوذ على الآراء المتلقاة من الجميع بالقبول. فصيروا هذه الصناعة ـ على (نفاسة) (٦) خطرها ، وشدة الحاجة في قوام أصول الدنيا إليها ـ واقعة في حسن الذم ، وصيّروا الموسومين بها عرضة ألسن عائبيها ومنقصيها.
__________________
(١) في الأصل : (الملك).
(٢) في الأصل : (فيهم).
(٣) يوسف : ١٠٨.
(٤) في الأصل : (الأقوات).
(٥) اللدد : شدة الخصومة. الصحاح ، لسان العرب (لدد).
(٦) في الأصل : (حفاسة).