دخل علي رضي الله عنه يوما دار الصدقة ، فنظر إلى عمل عمر قائما في شمس يوم شديد الحر ، وهو يملي في إبل الصدقة وألوانها وأسنانها. فقال علي لعثمان رضي الله عنهما :
أسمعت قول ابنة شعيب في كتاب الله تعالى : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (١) فهذا والله القوي الأمين (٢).
ولما ورد على عمر كتاب أبي عبيدة بن الجراح من الشام يذكر له مسير الروم إليه بقضهم وقضيضهم وأساقفهم وقسسهم ، وإنهم قد نزلوا في أربعمائة ألف من بين فارس وراجل موضعا يقال له اليرموك ، ويستمده الجيوش ويقول له :
إنك إن قصرت في مسيرها فاحتسب أنفس المسلمين إن أقاموا ، ودينهم إن انهزموا ، فقد جاءهم مالا قبل (لهم) (٣) به.
لم يتمالك عمر أن بكى وبكى المسلمون بالمدينة. وقالوا :
يا أمير المؤمنين ابعثنا جميعا أو أسر بنا. وترجح (٤) برأيه في ذلك ، فأشار علي رضي الله عنه بلزوم المدينة ، لتكون المفزع (٥) والملجأ للمسلمين بإمداد أبي عبيدة بالرجال والأموال وقال له : ثق بالله يا أمير المؤمنين ، ولا تيأس من روح الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٦). فقبل رأيه ، وكتب إلى أبي عبيدة (٧) :
__________________
(١) القصص : ٢٦.
(٢) الخبر في أسد الغابة ٤ / ٧١ عن أبي بكر العبسي أنه قال دخلت حين الصدقة مع عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب فجلس عثمان في الظل ، وقام علي على رأسه يملي عليه ما يقول عمر. وعمر قائم في يوم شديد الحر عليه بردتان سوداوان ، متزر بواحدة وقد وضع الأخرى على رأسه وهو يتفقد إبل الصدقة فيكتب ألوانها وأسنانها ، فقال علي لعثمان ، أما سمعت قول ابنة شعيب في كتاب الله عزوجل : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وأشار بيده إلى عمر فقال ، هذا هو القوي الأمين.
(٣) زيادة ليست في الأصل ، وفي فتوح الشام : (فاحتسب أنفس المسلمين إن هم أقاموا ، ودينهم إن هم تفرقوا).
(٤) ترجح أي مال واضطرب ، يقال ترجحت الأرجوحة بالغلام أي مالت.
(٥) في الأصل : (المقرع) والصواب المفزع. انظر الصحاح مادة (فزع).
(٦) يوسف : ٨٧.
(٧) الرسالة في فتوح الشام : ٨٢ وقد حذفت منها عبارات وآيات.