وكرر الاستشهاد بهذه الآية ، وقال معلقا عليها : «علما بأنّ المخاطبين يعرفون وقت السكون ووقت الاكتساب» (١). وقال معلّقا على بيت امرىء القيس :
كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا |
لدى وكرها العنّاب والحشف البالي |
«فهذا مفهوم المعنى فان اعترض معترض فقال : فهّلا فصل فقال : كأنه رطبا العناب وكأنه يابسا الحشف؟
قيل له : العربي الفصيح الفطن اللقن يرمي بالقول مفهوما ويرى ما بعد ذلك من التكرير عيا» (٢).
وسمّاه ابن جني «المجمل الذي يفصله العلم به» وذكر الآية السابقة : «ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار ...» وبيت امرىء القيس : «كأنّ قلوب الطير ...» وعلق عليهما بمثل تعليق المبرد ، ثم قال : «وهذا في القرآن والشعر كثير اذا تفطنت له وجدته» (٣). وتحدث ابن سنان عنه في التناسب وقال : «ومن التناسب ايضا حمل اللفظ على اللفظ في الترتيب ليكون ما يرجع الى المقدم مقدما والى المؤخر مؤخرا» (٤) كقوله الشريف الرضي :
قلبي وطرفي منك هذا في حمى |
قيظ وهذا في رياض ربيع |
فانه لما قدّم «قلبي» وجب أن يقدّم وصفه بأنّه في حمى قيظ ، فلو كان قال : «طرفي وقلبي منك» لم يحسن في الترتيب أن يؤخر قوله : «في رياض الربيع» والطرف مقدم.
وقال الزّمخشري تعليقا على قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥) : «شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر. فقوله : (لِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدة (وَلِتُكَبِّرُوا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي الى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان» (٦).
وقال عن قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ...) (القصص ٧٣) «زواج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة : لتسكنوا في احدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ، ولارادة شكركم» (٧). وقال عن الآية التي بعدها :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟)(٨) : «وقد سلكت بهذه الآية التي بعدها اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء ، إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده» (٩).
فالزمخشري يسمّي هذا النوع لفّا ، وهو المصطلح الذي تعارف عليه البلاغيون ولكنهم أضافوا اليه «النشر». قال الرازي : «اللف والنشر هو أن تلف شيئين ثم ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بأنّ السامع يردّ الى كل واحد منهما ماله» (١٠).
وأدخله السّكّاكي في المحسّنات المعنوية وقال : «اللف والنشر ، وهي أن تلف بين شيئين في الذكر ثم تتبعهما كلاما مشتملا على متعلق بواحد وبآخر من غير تعيين ثقة بأنّ السامع يردّ كلا منهما الى ما هو له» (١١).
__________________
(١) الكامل ج ١ ص ٧٤١.
(٢) الكامل ج ٢ ص ٧٤٠.
(٣) المنصف ج ٢ ص ١١٧.
(٤) سر الفصاحة ص ٢٢٥.
(٥) البقرة ١٨٥.
(٦) الكشاف ج ١ ص ١٧٢.
(٧) الكشاف ج ٣ ص ٣٣٧.
(٨) القصص ٧٤.
(٩) الكشاف ج ٣ ص ٣٣٨.
(١٠) نهاية الايجاز ص ١١٢ ، وينظر الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ٢٠.
(١١) مفتاح العلوم ص ٢٠٠.