نفسه.
وأما ما شاكل فيه غيره فكقول جرير :
إن العيون التي في طرفها حور |
قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا |
|
يصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك به |
وهنّ أضعف خلق الله إنسانا |
وقول عدي بن الرقاع :
وكأنّها بين النساء أعارها |
عينيه أحور من جآذر جاسم |
|
وسنان أقصده النعاس فرنّقت |
في عينه سنة وليس بنائم |
فالمشاكلة بين الرجلين من جهة أنّ كلا منهما وصف العيون بالمرض والفتور فأبرز معناه في صورة غير الصورة الاخرى بحسب قوة عارضته في السبك وحسن اختياره اللفظ وجودة ذهنه في الزيادة والنقص في التفضيل بين هذين الشاعرين بحيث لا يسعه هذا المكان.
وذكر الزمخشري المشاكلة وقال : «شهد رجل عند شريح فقال : «إنك لسبط الشهادة» فقال الرجل : «إنها لم تجعد عني» فقال : «لله بلادك» وقبل شهادته.
فالذي سوّغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة ولو لا بناء الدار لم يصح بناء الجار وسبوطة الشهادة لا متنع تجعيدها (١).
مشاكلة اللّفظ للّفظ :
وهي قسمان : المشاكلة بالثاني للأوّل كقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)(٢) على مذهب الجمهور وإنّ الجر للجوار ، وقوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وَالسَّماءَ رَفَعَها)(٣).
والمشاكلة بالأوّل للثاني كما في قراءة إبراهيم بن أبي عبيلة : «الحمدِ لله» (٤) بكسر الدال (٥).
مشاكلة اللّفظ للمعنى :
مشاكلة اللفظ للمعنى من أبواب عمود الشعر التي حدّدها القدماء قال المرزوقي : «وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية طول الدّربة ودوام المدارسة» (٦).
وقال الزركشي : «ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك» (٧) ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(٨). ولم يقل من «طين» كما أخبر به سبحانه في غير موضع (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ)(٩) ، إنما عدل من الطين الذي هو مجموع الماء والتراب الى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف ، وذلك أنّه أدنى العنصرين وأكثفهما لما كان المقصود مقابلة من ادّعى في المسبح الالهية أتى بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمسّ في المعنى من غيره من العناصر ولما أراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل أخبرهم أن يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه باذنه إذ كان المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به.
ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)(١٠). فانه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر لانه أتى بصيغة الاستغراق ، وليس في العناصر الاربع ما يعمّ
__________________
(١) الكاشف ج ١ ص ٨٥ ، وتنظر رسالة في تحقيق المشاكلة (رسائل ابن كمال باشا) ج ١ ص ٧٠.
(٢) المائدة ٦.
(٣) الرحمن ٦ ـ ٧.
(٤) الفاتحة ٢.
(٥) البرهان في علوم القرآن ج ٣ ص ٣٧٧.
(٦) شرح ديوان الحماسة ج ١ ص ١١.
(٧) البرهان ج ٣ ص ٣٧٨.
(٨) آل عمران ٥٩.
(٩) ص ٧١.
(١٠) النور ٤٥.