قالوا لنا وعرفنا بعد بينهم |
قولا فما وردوا عنه ولا صدروا |
وهذه من أمثلة قدامة في فن «التمثيل» (١).
ومن ذلك قول المتنبي :
ومن يك ذا فم مرّ مريض |
يجد مرّا به الماء الزّلالا |
والاستعارة في هذه الأمثلة لم تجر في لفظ مفرد من ألفاظ العبارة وإنّما أجريت في التركيب كله ، وهذا هو «التمثيل الذي يكون مجازا لمجيئك به على حد الاستعارة» (٢). أو «الاستعارة التمثيلية». ومتى فشا هذا اللون في الاستعمال سمي مثلا ولذلك لا تغير الأمثال (٣).
الاستعارة التّمليحيّة :
وتسمّى التّهكّميّة أيضا ، وهي استعمال الألفاظ الدالّة على المدح في نقائضها من الذّمّ والإهانة. وقد أشار الفرّاء إلى مثل هذا الأسلوب في القرآن الكريم وقال : «وقوله : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ)(٤) ، الإثابة ههنا في معنى عقاب ولكنّه كما قال الشاعر :
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه |
أداهم سودا أو محدرجة سمرا |
وقد يقول الرجل الذي قد اجترم اليك : «لئن أتيتني لأثيبنك ثوابك» معناه لأعاقبنك وربما أنكره من لا يعرف مذاهب العربية وقد قال الله تبارك وتعالى :(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٥) والبشارة انما تكون في الخير ، فقد قيل ذلك في الشر» (٦).
ونظر ابن جني الى مثل هذا الاسلوب بمثل ما نظر البلاغيون في المجاز المرسل الى اعتبار ما كان فقال تعليقا على قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٧) : «انما هو في النار الذليل المهان ، لكنه خوطب بما كان يخاطب به في الدنيا ، وفيه مع هذا ضرب من التبكيت له والاذكار بسوء أفعاله» (٨). وقال السكاكي في تعريف الاستعارة التمليحية : «هي استعارة اسم أحد الضدين أو النقيضين للآخر بواسطة انتزاع شبه التضاد والحاقه بشبه التناسب بطريق التهكم أو التمليح ثم ادعاء أحدهما من جنس الآخر والافراد بالذكر ونصب القرينة». (٩)
وعدّها القزويني من العنادية فقال : «ومنها ما استعمل في ضد معناه أو نقيضه بتنزيل التضاد أو التناقض منزلة التناسب بوساطة تهكم أو تمليح» (١٠).
وسار على ذلك شراح التلخيص (١١) ، والمدني الذي قال : «ومن العنادية التهكمية والتمليحية وهما ما استعمل في ضد أو نقيض» (١٢).
ومن أمثلتها قوله تعالى : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)(١٣) مكان السفيه القوي وقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(١٤) مكان انذرهم ؛ لأنّ البشارة إنما تستعمل في الأمور المحمودة والمراد ههنا العذاب والويل. ومنه قوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)(١٥).
__________________
(١) نقد الشعر ص ١٨١.
(٢) دلائل الاعجاز ص ٥٤.
(٣) الايضاح ص ٣٠٧ ، التلخيص ص ٣٢٣ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ١٤٧ ، المطول ص ٣٨٠ ، الاطول ج ٢ ص ١٤٧ ، التبيان في البيان ص ١٩٦.
(٤) آل عمران ١٥٣.
(٥) آل عمران ٢١ ، التوبة ٣٤.
(٦) معاني القرآن ج ١ ص ٢٣٩.
(٧) الدخان ٤٩.
(٨) المحتسب ج ١ ص ١٠١.
(٩) مفتاح العلوم ص ١٧٧.
(١٠) الايضاح ص ٢٩٠ ، التلخيص ص ٣٠٩.
(١١) شروح التلخيص ج ٤ ص ٧٨ ، المطول ص ٣٦٥ ، الاطول ج ٢ ص ١٣٠.
(١٢) أنوار الربيع ج ١ ص ٢٤٧.
(١٣) هود ٨٧.
(١٤) آل عمران ٢١ ، التوبة ٣٤ ، الانشقاق ٢٤.
(١٥) الصافات ٢٣.