ونرتبط السوابق مقربات |
وما ينجين من خبب الليالي |
وهذا ما ذهب اليه البلاغيون وأكّدوه (١). ومنهم من يسمي هذا الفن «حسن المطالع والمبادي» كالثعالبي الذي عقد فصلا للكلام على ابتداءات المتنبي الحسنة ، وابن قيم الجوزية الذي قال عنه : «وذلك دليل على جودة البيان وبلوغ المعاني الى الاذهان ، فانه أول شيء يدخل الأذن ، وأول معنى يصل الى القلب ، وأول ميدان يجول فيه تدبر العقل» (٢).
وقسمه الى قسمين :
الأول : جليّ كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٣) ، وأكثر مطالع سور القرآن الكريم على هذا النمط.
الثاني : خفّي كقوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ)(٤) ، وما يجري مجرى ذلك من السور التي افتتحت بالحروف المفردة والمركبة.
الإبداع :
الابداع من «أبدع» وهو أن يأتي الشاعر بالبديع ، والبديع : الشيء الذي يكون أولا (٥).
والابداع سمة الشاعر المبتكر والكاتب المقتدر ، وقد وضعه البلاغيون والنقاد في قمة الانتاج وإن كان قليلا إذا قيس بغيره. قال ابن رشيق : «الابداع : هو اتيان الشاعر بالمعنى المستظرف الذي لم تجر العادة بمثله. ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع وإن كثر وتكرر فصار الاختراع للمعنى والابداع للفظ ، فاذا تمّ للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمد وحاز قصب السبق» (٦).
وقال الوطواط : «قال أرباب البيان إنّ هذه الصنعة عبارة عن نظم المعاني البديعة في ألفاظ حسنة بعيدة عن التكلف. وفي رأيي أنّ ذلك لا يدخل في جملة الصناعات لأنّ كلام العقلاء والفضلاء سواء المنظوم منه أو المنثور يجب أن يكون على هذا النسق فان لم يكن كذلك اعتبر من أحاديث العوام» (٧).
وقسم ابن الأثير المعاني الى ضربين :
أحدهما : يبتدعه مؤلف الكلام من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه وهذا الضرب ربما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة ويتنبه له عند الامور الطارئة.
ومن ذلك ما ورد في شعر أبي تمام في وصف مصلّبين :
بكروا وأسروا في متون ضوامر |
قيدت لهم من مربط النّجار |
|
لا يبرحون ومن راهم خالهم |
أبدا على سفر من الأسفار |
وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة ، والخاطر في مثل هذا المقام ينساق الى المعنى المخترع من غير كلفة كبيرة لشاهد الحال الحاضرة.
ومن هذا الضرب ما جاء في شعر المتنبي وفي وصفه الحمّى ، وهو قوله :
وزائرتي كأنّ بها حياء |
فليس تزور إلا في الظلام |
|
بذلت لها المطارف والحشايا |
فعافتها وباتت في عظامي |
|
كأنّ الصّبح يطردها فتجري |
مدامعها بأربعة سجام |
|
أراقب وقتها من غير شوق |
مراقبة المشوق المستهام |
__________________
(١) التلخيص ص ٤٢٩ ، الإيضاح ص ٤٢٨ ، عروس الأفراح ج ٤ ص ٥٣١ ، المختصر ج ٤ ص ٥٣١ ، المطول ٤٧٧ ، مواهب الفتاح ج ٤ ص ٥٣١.
(٢) الفوائد ص ١٣٧.
(٣) الفاتحة ٢.
(٤) البقرة ٢.
(٥) لسان العرب (بدع).
(٦) العمدة ج ١ ص ٢٦٥.
(٧) حدائق السحر ص ١٨٨.