ثم قال : أجزيا لكع ، فقال :
تحطّم عنها قيضها عن خراطم |
وعن حدق كالنّبخ لم يتفلّق (١) |
فأخذ زهير بيد كعب وقال له : «قد أذنت لك في الشعر» (٢).
الانفصال :
فصلت الشيء فانفصل أي : قطعته فانقطع (٣).
والانفصال من مبتدعات المصري ، وقد عرّفه بقوله : «هو أن يقول المتكلم كلاما يتوجه عليه فيه دخل إذا اقتصر عليه فيأتي بعده بما ينفصل به عن ذلك إما ظاهرا أو باطنا يظهره التأويل» (٤) كقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ)(٥). فانّ على ظاهر هذه الآية حصل من جهة أنّ الطائر يطير بجناحيه فيكون الاخبار بذلك عريا عن الفائدة ، والانفصال عن ذلك هو أنه سبحانه لما قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) أوجبت البلاغة أن يردف ذلك بقوله : (وَلا طائِرٍ) في السماء أو في الجو (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) فأراد الايجاز فوجب أن يحذف إحدى الجملتين إما في السماء أو (يَطِيرُ). ولا فيها من الضمير ، ولا سبيل الى حذف الفعل لأنّه الذي يتعلق به الجار والمجرور الذي يمرّ بجناحيه وذكره مطلوب في الآية ؛ لأن ذكر الجناح يفصل صاحبه من الهمج الذي يظهر وهو يخال أنّه يطير كالنمل والجعلان وغير ذلك ، لأنّ هذا الصنف قد ذكر في نصف ما دبّ ودرج في الأرض. والآية قصد بها صحة التقسيم لأنّه ـ سبحانه ـ لما استوعب كل ما يدبّ على الأرض في صدرها أراد الإتيان بما يعمّ الذي يطير في الجو ، ولا يطير في الجو إلا طائر ، ولا يسمى طائرا إلا إذا طار بجناحين ، ولا تسمى آلة الطيران جناحا إلا اذا كانت ذات قصب وريش وأباهر وخوافي وقوادم ، فقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا طائِرٍ) بعد ذكر الدواب موضّح لما أراد من صحة التقسيم ، ولفظة «طائر» رشّحت لفظة «يطير» لمجيئها بعدها ولفظة «يطير» رشحت الاتيان بلفظة «الجناحين» فحصل من مجموع ذلك الانفصال عن الدّخل المتوجه الى ظاهر الآية.
ومنه قول أبي فراس :
في حرام الناس إن كن |
ت من الناس تعدّ |
|
ولقد نبّيت إبلي |
س إذا راك يصدّ |
|
ليس من تقوى ولكن |
ثقل فيك وبرد |
فانّ أبا فراس لو اقتصر على البيت الثاني لكان الهجاء فيه غير مخلص ، وكان يتوجه دخل بسبب احتمال البيت للمدح والاتيان به في معرض الهجو فانفصل عن هذا الدخل بالبيت الثالث.
وفرّق المصري بينه وبين الاحتراس بقوله : «والفرق بينه وبين الاحتراس ، عموم الاحتراس وخصوص هذا الباب لأنّ البيت المدخول من هذا الباب يكون الدخل المتوجه عليه من جهة كونه صالحا لضدين من الفنون وهو في سياق أبيات مقصودة في فن واحد منهما ، والاحتراس يكون بيته مدخولا من هذا الوجه وغيره» (٦). وقال أيضا : «إنّ الاحتراس هو ما فطن له الشاعر أو الناثر وقت العمل فاحترس منه ، والانفصال ما لم يفطن له حتى يدخل عليه فيأتي بجملة من الكلام أو بيت من الشعر ينفصل عنه ذلك الدخل» (٧). وفرّق
__________________
(١) النبخ ؛ الجدري ، البثور.
(٢) نضرة الاغريض ص ٢٠٠ ـ ٢٠٣.
(٣) اللسان (فصل).
(٤) تحرير التحبير ص ٦٠٩ ، بديع القرآن ص ٣٢٦.
(٥) الأنعام ٣٨.
(٦) تحرير التحبير ص ٦١٠.
(٧) تحرير التحبير ص ٢٤٦.