قال التّنّوخي : «ومن البيان تعقيب الكلام بمصدر معظم بمن أضيف اليه توكيدا لما في ذلك الكلام من الحكم والمعاني وغير ذلك مما يعظم في بابه خيرا أو شرا» (١). ومنه قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ)(٢). لما كانت الجبال ترى جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب لسرعة حركتها وهي لا ترى كان ذلك أمرا عظيما تحار فيه العقول ، وكّد بقوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ) ثم وصف نفسه بانه المتقن لكل شيء.
ومن ذلك قول الشاعر :
يركب كلّ عاقر جمهور |
مخافة وزعل المحبور |
|
والهول من تهوّل الهبور |
يجوز أن يكون «مخافة» وما عطف عليه منتصبا على المصدر أو مفعولا له ، وهو مصدر أيضا فوكّد به سوء فعله في كونه راكب العاقر وهو ما لم ينبت من الرمل مع أنّه جمهور وهو ما تراكم من الرمل أيضا ، وترك السهل خوفا وسرعة لكونه متنعما يعسر عليه تحمل الشقاء أو هولا وتهوّلا من المواضع المطمئنة للجبن ، وكل ذلك ركوب السهل خير منه فوكّد بتلك المصادر ضعف رأيه مع أنّ المصدر حيث وقع يكون مؤكّدا لفعله أو مبينا لنوعه أو لعدده.
وذكر ابن رشيق في باب التقسيم أنّ منه ما يسمى جمع الأوصاف كقول امرىء القيس :
له أيطلا ظبي وساقا نعامة |
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل |
ويسميه بعض الحذّاق من أهل الصناعة «التعقيب» وهو عندهم مستحسن ، أما التعقيب وهو مثل التقعير فمكروه في الكلام» (٣).
التّعقيد :
العقد : نقيض الحلّ ، عقده يعقده عقدا وتعقادا وعقّده ، وقد اثعقد وتعقد (٤). والتعقيد من الأساليب غير المستحسنة ، وقد قال بشر بن المعتمر : «وإياك والتوعر فانّ التوعّر يسلمك الى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك» (٥).
وذكر المبرد أنّ من أقبح الضرورة وأهجن الالفاظ وأبعد المعاني قول الفرزدق في مدح ابراهيم بن هشام :
وما مثله في الناس إلا مملّكا |
أبو أمه حيّ أبوه يقاربه |
«وكان يكون إذا وضع الكلام في موضعه أن يقول : وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أم هذا المملك أبو هذا الممدوح. فدلّ على أنّه خاله بهذا اللفظ البعيد. وهجنه بما أوقع فيه من التقديم والتأخير حتى كأنّ هذا الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد مع قوله حيث يقول :
تصرّم مني ودّ بكر بن وائل |
وما كاد مني ودّهم يتصرّم |
|
قوارص تأتيني ويحتقرونها |
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم |
وكأنه لم يقع ذلك الكلام لمن يقول :
والشيب ينهض في السواد كأنّه |
ليل يصيح بجانبيه نهار |
فهذا أوضح معنى وأعرب لفظ وأقرب مأخذ» (٦).
وكان جعفر بن يحيى يطلب أن يكون الكلام بريا من التعقيد ، وقال العسكري : «التعقيد والاغلاق والتقعير سواء ، وهو استعمال الوحشي وشدة تعليق الكلام بعضه ببعض حتى يستبهم المعنى» (٧). وقد
__________________
(١) الاقصى القريب ص ٨٠.
(٢) النمل ٨٨.
(٣) العمدة ج ٢ ص ٢٥.
(٤) اللسان (عقد).
(٥) البيان ج ١ ص ١٣٦.
(٦) الكامل ج ١ ص ٢٨.
(٧) كتاب الصناعتين ص ٤٥.