وكان قدامة قد تحدث عن هذا الموضوع وقال : «ومما جاء في الشعر من التناقض على طريق الايجاب والسلب قول عبد الرحمن بن عبد الله القس :
أرى هجرها والقتل مثلين فاقصروا |
ملامكم فالقتل أفى وأيسر |
فأوجب هذا الشاعر الهجر والقتل أنّهما مثلان ثم سلبهما ذلك بقوله : «إنّ القتل أعفى وأيسر» فكأنه قال :إنّ القتل مثل الهجر وليس مثله. وأرى أنّ هذا الشاعر أراد أن يقول : بل القتل أعفى وأيسر ، ولو قال : «بل» لكان الشعر مستقيما لأنّ مقام لفظة «بل» مقام ما ينفي الماضي ويثبت المستأنف. لكنه لما لم يقلها وأتى بجمع الاثبات ونفيه استحال شعره. وليس إذا علمنا أنّ شاعرا أراد لفظة تقيم شعره فجعل مكانها لفظة تحيله وتفسده وجب أن يحتسب له ما توهّم أنّه أراده ويترك ما قد صرّح به ، ولو كانت الأمور كلها تجري على هذا لم يكن خطأ» (١).
الإيجاز :
وجز الكلام وجازة ووجزا وأوجز : قلّ في بلاغة ، وأوجزه اختصره. ويقال : أوجز فلان ايجازا في كل أمر ، وأمر وجيز وكلام وجيز أي : خفيف مقتصر. (٢)
فالايجاز أن يكون اللفظ أقل من المعنى مع الوفاء به وإلا كان إخلالا يفسد الكلام. أو هو «قلة عدد اللفظ مع كثرة المعاني» (٣). وقد سأل معاوية صحار بن عياش العبدي : «ما تعدّون البلاغة فيكم؟». قال :الايجاز. قال له معاوية : وما الايجاز؟ قال صحار : أن تجيب فلا تبطئ وتقول فلا تخطئ (٤).
وأسلوب الايجاز من أهم خصائص اللغة العربية ، فقد كان العرب لا يميلون الى الاطالة والاسهاب وكانوا يعدون الايجاز هو البلاغة ، فأكثم بن صيفي رأى أنّ البلاغة هي الايجاز ، وكان جعفر بن يحيى يقول لكتّابه : «إن قدرتم أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا» (٥). وفعلوا مثل ذلك في القصائد وقد قيل لبعضهم : ما لك لا تزيد على أربعة واثنين؟ قال : هي بالقلوب أوقع ، والى الحفظ أسرع ، وبالالسن أعلق ، وللمعاني أجمع ، وصاحبها أبلغ وأوجز (٦). وقال أبو عبيدة : «العرب تختصر الكلام ليخففوه لعلم المستمع بتمامه فكأنّه في تمام القول» (٧). وقال الجاحظ : «وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره» (٨) ولكنه قال : «والايجاز ليس يعني قلة عدد الحروف واللفظ ، وقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يسع بطن طومار (٩) فقد أوجز ، وكذلك الاطالة. وإنّما ينبغي له أن يحذف بقدر ما لا يكون سببا لاغلاقه ولا يردد وهو يكتفي في الافهام بشطره ، فما فضل عن المقدار فهو الخطل (١٠)». وعدّ ابن المقفع الايجاز هو البلاغة (١١).
وكان لهذه الصفة التي أولع بها العرب أن اهتم البلاغيون والنقاد باسلوب الايجاز ووضعوا له حدودا وأقساما وبينوا مواضعه (١٢) ، لأنّه ليس بمحمود في كل
__________________
(١) نقد الشعر ص ٢٣٩ ، الموشح ص ٣٥٣.
(٢) اللسان (وجز).
(٣) البيان ج ٢ ص ٢٨.
(٤) البيان ج ١ ص ٩٦ ، الحيوان ج ١ ص ٩١.
(٥) البيان ج ١ ص ٨٦ ، كتاب الصناعتين ص ١٧٣.
(٦) كتاب الصناعتين ص ١٧٤.
(٧) مجاز القرآن ج ١ ص ١١١.
(٨) البيان ج ١ ص ٨٣.
(٩) الطومار ؛ الصحيفة.
(١٠) الحيوان ج ١ ص ٩١.
(١١) البيان ج ١ ص ١١٦.
(١٢) ايضاح ذلك في ؛ الكتاب ج ١ ص ٢١١ ، مجاز القرآن ج ١ ص ١١١ ، البيان ج ١ ص ٨٣ ، ٩٠ ، ٩١ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠٧ ، ١١٥ ، ١١٦ ، ١٥٥ ، ج ٢ ص ١٧ ، ٢٨ ، ٦٨ ، الحيوان ج ١ ص ٤٤ ، ٩١ ، ٩٤ ، ج ٣ ص ٧٢ ، ٧٦ ، ج ٦ ص ٧ ، عيون الاخبار ج ٢ ص ١٧٢ ، النكت في إعجاز القرآن ص ٧٠ ، الخصائص ج ١ ص ٢٨ ، ٢٩ ، ٨٣ ، ٨٦ ، كتاب الصناعتين ص ١٧٣ ، ١٧٥ ، إعجاز القرآن ص ٣٩٦ ، زهر الآداب ج ١ ص ١١٤ ، ـ ـ العمدة ج ١ ص ٢٢١ ، ٢٥٠ ، سر الفصاحة ص ٢٤٥ ، الرسالة العسجدية ص ٨٨ ، نهاية الايجاز ص ١٤٥ ، مفتاح العلوم ص ١٣٣ ، الأقصى القريب ص ٦٠ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤ ، المثل السائر ج ٢ ص ٧١ ، ٧٤ ، ١٢٩ ، الجامع الكبير ص ١٢٢ ، التبيان ص ١١٠ ، البرهان الكاشف ص ٢٣٢ ، تحرير التحبير ص ٤٥٩ ، بديع القرآن ص ١٧٩ ، جوهر الكنز ص ٢٦٨ ، الايضاح ص ١٨٢ ، التلخيص ص ٢٠٩ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ١٦٠ ، الطراز ج ٣ ص ٣١٦ ، منهاج البلغاء ص ١٧٤ ، الفوائد ص ٦٨ ، المطول ص ٢٨٧ ، الاطول ج ٢ ص ٣٢. البرهان ج ٣ ص ٢٢٠ ، خزانة الادب ص ٣٦٤ ، معترك ج ١ ص ٢٩٥ الاتقان ج ٢ ص ٥٣ ، شرح عقود الجمان ص ٦٧ ، ٧٠ ، حلية اللب ص ٩٩ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٣٩ ، شرح الكافية ص ١٧٨.