عدّه من الفضائل التائهة ، وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض. وأما ما قصد به التوسع خاصة فكقول الصّمة بن عبد الله :
حننت الى ريّا ونفسك باعدت |
مزارك من ريّا وشعبا كما معا |
|
فما حسن أن تأتي الأمر طائعا |
وتجزع أن داعي الصبّابة أسمعا |
وقد ورد بعدهما ما يدلّ على أنّ المراد بالتجريد فيهما التوسع ؛ لأنّه قال :
وأذكر أيام الصّبا ثم أنثني |
على كبدي من خشية أن تصدّعا |
|
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى |
وما أحسن المصطاف والمتربعّا |
فانتقل من الخطاب التجريدي الى خطاب النفس ولو استمر على الحالة الاولى لما قضي عليه بالتوسع وإنما كان يقضي عليه بالتجريد البليغ.
وعلى هذا الاسلوب ورد قول المتنبي :
لا خيل عندك تهديها ولا مال |
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال |
|
واجز الأمير الذي نعماه فاجئة |
بغير قول ونعمى القوم أقوال |
الثاني : التجريد غير المحض ، وهو خطاب لنفسك لا لغيرك ، وهذا «نصف تجريد» لأنّك لم تجرد من نفسك شيئا وإنّما خاطبت نفسك بنفسك. ومنه قول عمرو بن الاطنابة :
أقول لها وقد جشأت وجاشت |
مكانك تحمدي أو تستريحي |
وقول الاخر :
أقول للنفس تأساء وتعزية |
إحدى يديّ أصابتني ولم ترد |
وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطابا لغيرك كالأول وإنما المخاطب هو المخاطب بعينه وليس ثمّ شيء خارج عنه.
وتحدث عنه عبد القاهر وأخرجه من الاستعارة وقال تعليقا على قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(١) : «والمعنى ـ والله أعلم ـ أنّ النار هي دار الخلد وأنت تعلم أن لا معنى ههنا لأن يقال إنّ النار شبهت بدار الخلد إذ ليس المعنى على تشبيه النار بشيء يسمى دار الخلد كما تقول في زيد : «إنّه مثل الأسد» ثم تقول : «هو الأسد» وإنما هو كقولك : «النار منزلهم ومسكنهم» (٢).
وقال ابن مالك : «التجريد أن تدلّ على أنّ الشيء بليغ في وصف بدعوى ما يستلزم صحة استخلاص موصوف تهيأ منه ، كما تقول : «لي من فلان صديق حميم» على دعوى أنّه قد بلغ من الصداقة مبلغا صحّ معه أن يستخلص منه مثله فيها (٣)».
وقال الحلبي والنويري : هو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة مبالغة في كمالها فيه» (٤). ومثل ذلك قال القزويني (٥) وذكر أنّه أقسام غير أنّه لم يحددها واكتفى بالأمثلة التي يتّضح منها أنّ التجريد يكون بالباء وب «من» ومخاطبة الغير ويراد به النفس وانتزاع شيء من شيء مثله كقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)(٦) فقد انتزع منها مثلها. وفعل مثله شراح تلخيصه (٧). ولم يخرج العلوي على ما ذكره ابن الأثير (٨).
__________________
(١) فصلت ٢٨.
(٢) أسرار البلاغة ص ٣١٠.
(٣) المصباح ص ١٠٧.
(٤) حسن التوسل ص ٢٨٥ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٥٦.
(٥) الايضاح ص ٣٦٣ ، التلخيص ص ٣٦٨.
(٦) فصلت ٢٨.
(٧) شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٤٨ ، المطول ص ٤٣٢ ، الاطول ج ٢ ص ٢٠٤.
(٨) الطراز ج ٣ ص ٧٢.