لتسألن البحر» فظاهر هذا أنّ فيه من نفسه أسدا وبحرا هو عينه هو الأسد والبحر لا أنّ هناك شيئا منفصلا عنه وممتازا منه. وعلى هذا يخاطب الانسان منهم نفسه حتى كأنها تقابله أو تخاطبه» (١). ونقل ابن الاثير بعض كلام الفارسي وردّ بعضه ، قال : «وأمّا الذي ذكره أبو علي الفارسي ـ رحمهالله ـ فأنه قال : إنّ العرب تعتقد أنّ في الانسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فتخرج ذلك المعنى الى ألفاظها مجردا من الانسان كأنه غيره وهو هو بعينه نحو قولهم : «لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد» و «لئن سألته لتسألنّ منه البحر» وهو عينه الاسد والبحر لا أنّ هناك شيئا منفصلا عنه أو متميزا منه. ثم قال : وعلى هذا النمط كون الانسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره كما قال الأعشى : «وهل تطيق وداعا أيّها الرجل» وهو الرجل نفسه لا غيره.
هذا خلاصة ما ذكره أبو علي ـ رحمهالله ـ والذي عندي أنه أصاب في الثاني ولم يصب في الأول ، لان الثاني هو التجريد ، ألا ترى أنّ الأعشى جرّد الخطاب عن نفسه وهو يريدها ، وأما الأول وهو قوله : «لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد» و «لئن سألته لتسألن منه البحر» فان هذا تشبيه مضمر الأداة إذ يحسن تقدير أداة التشبيه فيه» (٢). وردّ ابن أبي الحديد هذا الرأي وقال : «إنّ الحدّ الذي حدّ هذا الرجل التجريد به لم يأت فيه نص من كتاب الله تعالى ولا ورد عن رسول الله وانما هو حدّ اختاره هو وفسر التجريد به ، فانه حجر على أبي علي ـ رحمهالله ـ أن يجعل التجريد شيئا آخر.
ومعلوم أنّ هذه الاصطلاحات والمواصفات موكولة الى آراء العقلاء واختياراتهم فأبو علي ـ رحمهالله ـ قد اختار أن يسمّي قولهم : «إذا سألت زيدا سألت البحر» تجريدا ، وقد شرح ذلك وأوضحه بقوله إنّ ظاهر هذه اللفظة أنّ المسؤول غير زيد لأنّ ألفاظها تقتضي ذلك.
ألا ترى أنك تقول : «صحبت زيدا فاقتبست منه العلم» و «قتلت فلانا فأخذت منه السلب» فيقتضي ظاهره بأنّ العلم غير المصحوب وأنّ السلب غير المقتول فهكذا يقتضي ظاهر قوله : «سألته فسألت منه البحر» أنّ البحر غيره. فأبو علي ـ رحمهالله ـ سمّاه تجريدا ، وهو غير مانع لك من اصطلاحك ولا مشاحّ لك في جدك الذي ذكرته للتجريد فكذلك أنت لا تجور ولا تضايقه في اصطلاحه وتجريده» (٣). وردّ أقوال ابن الاثير الأخرى منتصرا للفارسي. وكان ابن الاثير قد قال إنّ التجريد «إخلاص الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك لا المخاطب نفسه» (٤). وله فائدتان :
الاولى : طلب التوسع في الكلام.
الثانية : وهي الأبلغ وذاك أنّه يتمكن المخاطب من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه إذ يكون مخاطبا بها غيره ليكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقوله غير محجور عليه.
والتجريد قسمان :
الاول : التجريد المحض ، وذلك أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك ، كقول حيص بيص :
إلام يراك المجد في زيّ شاعر |
وقد نحلت شوقا فروع المنابر |
|
كتمت بعيب الشعر حلما وحكمة |
ببعضهما ينقاد صعب المفاخر |
|
أما وأبيك الخير إنّك فارس ال |
مقال ومحيي الدارسات الغوابر |
|
وإنّك أعييت المسامع والنّهى |
بقولك عمّا في بطون الدفاتر |
فقد أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة وعدّ ما
__________________
(١) الخصائص ج ٢ ص ٤٧٣ ، وينظر المنزع البديع ص ٢٧٩ ، الروض المريع ص ٩٧.
(٢) المثل السائر ج ١ ص ٤٢٧.
(٣) الفلك الدائر ص ٢١٩.
(٤) المثل السائر ج ١ ص ٤٢٣.