وقول كثير :
غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا |
غلقت لضحكته رقاب المال (١) |
فانه استعار الرداء للمعروف لأنّه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه ، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف لا الرداء فنظر الى المستعار.
الاستعارة التّحقيقيّة :الاستعارة التّحقيقية هي «أن يكون المشبه المتروك شيئا متحققا إما حسيا أو عقليا» (٢).
وسماها العلوي الحقيقية وقال : «واما الحقيقية فهي أن تذكر اللفظ المستعار مطلقا ، كقولك : «رأيت أسدا». والضابط لها أن يكون المستعار له أمرا محققا سواء جرد عن حكم المستعار له أو لم يجرد بأن يذكر الاستعارة ثم يأتي بعد ذلك بما يؤكد أمر المستعار له ويوضح حاله» (٣). ومثال ذلك قول الشاعر :
ترى الثياب من الكتّان يلمحها |
نور من البدر أحيانا فيبليها |
|
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها |
والبدر في كلّ وقت طالع فيها (٤) |
فلما استعار ذكر القمر عقبه بذكر المعاجر وأنّه يبليها بطلوعه فيها كل وقت وذكره من أجل ايضاح أمر المستعار له وبيان حقيقته.
وأوضح السيوطي تعريف السكاكي فقال : «ما تحقق معناها حسا نحو (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(٥). أو عقلا نحو (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً)(٦) أي : بيانا واضحا وحجة دامغة (٧). والى ذلك ذهب الاسفراييني والمدني. (٨)
الاستعارة التّخييليّة :
هي أن يستعار لفظ دال على حقيقة خيالية تقدر في الوهم ثم تردف بذكر المستعار له ايضاحا لها وتعريفا لحالها. وقد سمّاها ابن الاثير الحلبي «استعارة التخييل» (٩) ، وسماها العلوي «الاستعارة الخيالية الوهمية» (١٠).
ومثال الاستعارة التخييلية قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ)(١١) وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ)(١٢) وهما من الآيات الدالة على التشبيه.
ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :
واذا المنيّة أنشبت أظفارها |
ألفيت كلّ تميمة لا تنفع |
وقد يجتمع التحقيق والتخييل في الاستعارة كما في قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(١٣). والظاهر من هذه الاستعارة هو التخييل لأنّ الله ـ تعالى ـ لما ابتلاهم لكفرهم باتصال هاتين البليتين ، ولما استعار اللباس ههنا مبالغة في الاشتمال عليهم أخذ الوهم في تصوير ما للمستعار منه من التغطية والستر والاسترسال رعاية لمزيد البيان في ذلك. وإن جعلت من باب التحقيق فهو أنّ ما يرى على الانسان عند شدة الخوف والجوع
__________________
(١) غمر ؛ كثير أو واسع. الرداء ؛ العطاء الشبيه بالرداء. غلقت انتقل ملكها الى أيدي السائلين.
(٢) مفتاح العلوم ص ١٧٦.
(٣) الطراز ج ١ ص ٢٣٠.
(٤) المعاجر ؛ جمع معجر على وزن منبر ، وهو ثوب تعتم به المرأة وتشده على رأسها.
(٥) النحل ١١٢.
(٦) النساء ١٧٤.
(٧) معترك ج ١ ص ٢٨١ ، الاتقان ج ٢ ص ٤٥ ، شرح عقود الجمان ص ٩٣.
(٨) الأطول ج ٢ ص ١٥٤ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٢٥١ ، التبيان في البيان ص ١٨٩.
(٩) جوهر الكنز ص ٥٨.
(١٠) الطراز ج ١ ص ٢٣٢.
(١١) المائدة ٦٤.
(١٢) الرحمن ٢٧.
(١٣) النحل ١١٢.