حصول الغرض من المخاطب والملاطفة له في بلوغ المعنى المقصود من حيث لا يشعر به ، وفي ذلك من الغرائب والدقائق ما يوثق السامع ويطربه ؛ لأنّ مبنى صناعة التأليف عليه ومنشأها منه» (١).
ومثال ذلك قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا)(٢). وقال ابن الأثير معلقا على هذه الآيات : «هذا كلام يهزّ أعطاف السامعين ويبهج نفوس المتأملين ، فعليك أيها المترشح لهذه الصناعة بامعان النظر في مطاويه وترداد الفكر في أثنائه ، واتخاذه قدوة ونهجا تقتفيه ، ألا ترى حين أراد ابراهيم أن ينصح أباه ويعظه مما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وانتظام مع استعمال المجاملة واللطف واللين والأدب الجميل والخلق الحسن مستنصحا في ذلك بنصيحة ربه وذاك أنه طلب منه أولا العلة في خطيئته طلب منبّه على تماديه موقظ له لافراطه في غفلته وتناهيه ؛ لأنّ المعبود لو كان حيا متميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب إلا أنّه بعض الخلق لاستسخف عقل من أهّله للعبادة ووصفه بالربوبية ولو كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيين ، فكيف لمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر؟ ثم ثنّى ذلك بدعوته الى الحق مترفقا به متطلعا فلم يسم أباه بالجهل المطلق ولا نعته بالعلم الفائق ولكنه قال : إنّ معي لطائف من العلم وشيئا منه. وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ ، فلا تستنكف وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلّث ذلك بتثبيطه ونهيه عما كان عليه بأنّ الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده ، وهو عدوّك وعدوّ أبيك آدم ، هو الذي ورّطك في هذه الورطة وألقاك في هذه الضلالة. إلا أنّ ابراهيم ـ عليهالسلام ـ لامعانه في الاخلاص لم يذكر من جنايتي الشيطان إلّا التي تختص منها بالله ـ عزوجل ـ عصيانه واستكباره ولم يلتفت الى ذكر معاداته لآدام ـ عليهالسلام ـ وذريته. ثم ربّع ذلك بتخويفه سوء العاقبة وما ينتج عليه من الوبال. ولم يخل هذا الكلام من حسن أدب بحيث لم يصرّح بان العقاب لاحق لأبيه ولكن قال : «إني أخاف أن يمسّك عذاب» فذكر الخوف والمسّ إعظاما لهما ونكّر العذاب ، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه أكبر من العذاب وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله : «يا أبت» توسلا اليه واستعطافا ، فقال له في الجواب : (قالَ : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)(٣) ألا ترى كيف أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ولم يقابل قوله : «يا أبت» بـ «يا بنيّ»؟ وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟) لأنه كان أهم عنده وفيه ضروب من التعجب والانكار لرغبة ابراهيم عن آلهته وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب أحد عنها» (٤).
وعرّفه ابن الأثير الحلبي بقوله : «يقال استدرج فلان فلانا إذا توصل الى حصول مقصوده من غير أن يشعره من أول وهلة. والمراد بذلك الملاطفة في الخطاب ولزوم الأدب في الكلام مع المخاطب بحيث لا تنفر نفسه قبل حصول المقصود منه» (٥). وهذا قريب من قول ابن الاثير السابق ، ونقل أحد أمثلته وعلّق عليه بما
__________________
(١) الجامع الكبير ص ٢٣٥.
(٢) مريم ٤١ حتى ٤٥.
(٣) مريم ٤٦.
(٤) الجامع الكبير ص ٢٣٥ ، المثل السائر ج ٢ ص ٦٩.
(٥) جوهر الكنز ص ١٥٦.