الاستثناء لو لم يتقدم لفظه هذا الاحتراس من قوله تعالى (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) لما جاز اثباته في أبواب البديع فانه لو اقتصر فيه على قوله (فسجد الملائكة إلا إبليس) لاحتمل أن يكون من الملائكة من لم يسجد فيتأسّى به إبليس ولا يكون منفردا بهذه الكبيرة لاحتمال أن تكون أداة التعريف للعهد لا للجنس ، فلما كان هذا الاشكال يتوجه على الكلام اذا اقتصر فيه على ما دون التوكيد وجب الاتيان بالتوكيد ، ليعلم أنّ أداة التعريف للجنس فيرتفع هذا الاشكال بهذا الاحتراس فحينئذ تعظم كبيرة ابليس لكونه فارق جميع الملأ الأعلى وخرق اجماع الملائكة فيستحق أن يفرد بما جرى عليه من اللعن الى آخر الأبد.
ومنه قول زهير :
أخو ثقة لا تهلك الخمر ما له |
ولكنّه قد يهلك المال نائله |
وقول أبي نواس :
لمن طلل عاري المحلّ دفين |
عفا آيه إلّا خوالد جون |
وقول الآخر :
تبّت يد سألت سواك وأجدبت |
أرض بغير بحار جودك توسم |
|
فالعزّ إلّا في حياتك ذلّة |
والمال إلّا من يديك محرّم |
وهناك نوع آخر من الاستثناء وقع للمصري وسماه «استثناء الحصر».
استثناء الحصر :
وقع هذا النّوع للمصري وهو الذي سماه بهذا الاسم قال : «ومن الاستثناء ، نوع وقع لي فسميته استثناء الحصر ، وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل من الكثير» (١). كقول القائل :
إليك وإلا ما تحثّ الركائب |
وعنك وإلّا فالمحدّث كاذب |
فان خلاصة هذا البيت قول الشاعر للممدوح : لا تحث الركائب إلّا اليك ولا يصدق المحدث إلا عنك ، ولا يحصل هذا الحصر من الاستثناء السابق.
وقد شرح المصري ذلك بقوله : «فان قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(٢) لا يمنع أن يقال : إلا خمسين عاما وعاما لو لا توخي الصدق في الخبر. وقوله سبحانه : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ)(٣) لا يمنع ان يقال :
ورهطه ، لو لا مراعاة الصدق ، ولأنّ الصيغ التي قدرها المعترض لا يقع مثلها في الكلام الفصيح فانها عبارة أهل العي والفهد. فان قلت : كل الاستثناء موضوع للحصر فلا اختيار لهذا الاستثناء على الأول ، وما قدرته في الاستثناء الأول يلزم مثله في هذا الاستثناء إذا أزلت منه التقديم والتأجير وأتيت بالكلام على استقامته. قلت : الذي ميّز هذا الاستثناء على الأول هو ما فيه من التقديم والتأجير فانه على الصورة التي جاء عليها يفيد حصرا أشد من حصر جنس الاستثناء كله».
وذكر الحموي والسيوطي هذا النوع ونسباه الى المصري (٤) ، ولكن المدني علّق على ذلك بقوله : «وأنا أقول : أما لفظ البيت (٥) فليس فيه استثناء و «إلّا» المذكورة في صدره وعجزه ليست هي الاستثنائية وانما هي بمعنى «إن لم» فهي كلمتان «ان» الشرطية
__________________
(١) تحرير التحبير ص ٣٣٧.
(٢) العنكبوت ١٤.
(٣) الحجر ٣٠ ـ ٣١
(٤) خزانة الأدب ص ١١٩ ، شرح عقود الجمان ص ١٣٢.
(٥) البيت هو ؛
إليك والّا ما تحث الركائب |
وعنك وإلّا فالمحدث كاذب |