وأمثلته (١).
والمناسبة عند المصري نوعان (٢) : مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ فالمعنوية أن يبتدىء المتكلّم بمعنى ثم يتمّم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ كقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٣) ، فانه سبحانه لما قدّم نفي إدراك الإبصار له عطف على ذلك قوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ) خطابا للسامع بما يفهم إذ معترف العادة أنّ كل لطيف لا تدركه الأبصار ، ألا ترى أنّ حاسّة البصر لا تدرك إلّا اللون من كل متلوّن ، والكون من كل متكوّن فإدراكهما إنّما هو للمركّبات دون الأفراد ولذلك لما قال (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) عطف على ذلك قوله (الْخَبِيرُ) تخصيصا لذاته سبحانه بصفات الكمال ؛ لأنّ كل من أدرك شيئا كان خبيرا بذلك الشيء.
ومن ذلك قول المتنبي :
على سابح موج المنايا بنحره |
غداة كأنّ النّبل في صدره وبل |
فإنّ بين لفظة السباحة ولفظة الموج ولفظة الوبل تناسبا معنويا صار البيت به متلاحما شديد ملاءمة الألفاظ.
وأما المناسبة اللفظية فهي توخّي الإتيان بكلمات متّزنات وهي على ضربين : تامة وغير تامة. فالتامة أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفّاة وأخرى ليست بمقفّاة ، فالتقفية غير لازمة للمناسبة. ومن شواهد المناسبة التي ليست بتامة في الكتاب العزيز قوله تعالى : (ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ)(٤).
ومن شواهد التامة قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مما كان يرقي به الحسنين ـ عليهماالسلام ـ : «أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» ، فقال النبي الكريم : «لامة» ولم يقل «ملمة» وهي القياس لمكان المناسبة اللفظية للتامة. ومثله قوله ـ عليهالسلام ـ : «ارجعن مأزوات غير مأجورات» والمستعمل «موزورات» لأنّه من «الوزر» غير مهموز وأما ما جاء من السّنّة من أمثلة المناسبة الناقصة فكقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «إنّ أحبكم اليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا» (٥) فناسب ـ عليهالسلام ـ بين «أخلاق» و «أكناف» مناسبة اتزان لا تقفيه.
ومن أمثلة المناسبتين الناقصة والتامة قول أبي تمام :
مها الوحش إلا أنّ هاتا أوانس |
قنا الخطّ إلا أنّ تلك ذوابل |
فناسب بين «مها» و «قنا» مناسبة تامّة وبين «الوحش» و «الخطّ» و «أوانس» و «ذوابل» مناسبة غير تامّة.
ولخّص الحلبي والنّويري وابن الأثير الحلبي والحموي (٦) كلام المصري وأخذوا بعض أمثلته.
ولم يخرج المدني كثيرا على سابقيه غير أنّه قال : «المناسبة على ضربين : معنوية ولفظية والمعنوية هي التّناسب في المعاني ويندرج فيها مراعاة النظير والتوشيح وتناسب الأطراف وائتلاف المعنى مع المعنى. وتوهّم ابن حجة أنّ المناسبة المعنوية أمر غير ذلك وعرّفها بتعريف تناسب الأطراف الذي سمّاه بعضهم بتشابه الأطراف المعنوي ومثّل لها
__________________
(١) الرسالة العسجدية ص ١٣٠.
(٢) تحرير التحبير ص ٣٦٣ ، بديع القرآن ص ١٤٥.
(٣) الانعام ١٠٣.
(٤) ق ١ ـ ٢.
(٥) الموطأ الاكناف : الرجل الدمث الاخلاق السهل الكريم.
(٦) حسن التوسل ص ٢٨٨ ، نهاية الأرب ج ٧ ص ١٥٨ ، جوهر الكنز ص ٢٤١ ، خزانة الادب ص ١٦٦ ، نفحات ص ١٣٨ ، شرح الكافية ص ١٤١.