والى بني عبد الكريم تواهقت |
رتك النعام رأى الظلام فخوّدا (١) |
ومن ذلك لفظة «ودع» وهي فعل ماض لا ثقل بها على اللسان ، ولكنها حينما جاءت بهذه الصيغة لم تحسن كقول أبي العتاهية :
أثروا فلم يدخلوا قبورهم |
شيئا من الثروة التي جمعوا |
|
وكان ما قدّموا لأنفسهم |
أعظم نفعا من الذي ودعوا |
وكانت حسنة بديعة بصيغة الأمر كقوله تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٢) وبصيغة المستقبل كما في قوله : ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد واصل في شهر رمضان فواصل معه قوم : «لو مدّ لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع له المتعمقون تعمقهم». وقول المتنبي :
تشقّكم بقناها كل سلهبة |
والضّرب يأخذ منكم فوق ما يدع (٣) |
ومثل ذلك لفظة «وذر» فانها لا تأتي بصيغة الماضي وانما بصيغة الأمر كقوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا)(٤) ، وصيغة المستقبل كقوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)(٥).
وقد تكون اللفظة حسنة وهي مفردة ولكنها تفقد ذلك الحسن حينما تثنّى ، ومن ذلك «الأخدع» التي جاءت حسنة رائعة في قول الشاعر :
تلفتّ نحو الحيّ حتى وجدتني |
وجعت من الاصغاء ليتا وأخدعا (٦) |
وجاءت ثقيلة مستكرهة في قول أبي تمام :
يا دهر قوم من أخدعيك فقد |
أضججت هذا الأنام من خرقك |
وعلة ذلك انها في الأول مفردة وفي الثاني مثناة.
ومن الألفاظ ما لا يحسن إلا بصيغة الجمع ، كلفظة اللب أي العقل ، فانها وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وهي مجموعة ولم ترد مفردة ، كقوله تعالى : (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧) ، وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٨).
ومنها ما لا يحسن إلا في الافراد كلفظة «الطيف» التي تفقد جمالها حينما تجمع فيقال : «طيوف».
وللصيغ أثر في الحسن والقبح ، ولكنّ الذوق والثقافة والممارسة هي التي تضع الحقيقة أمام المتذوقين ، أي أنّه لا تحدد هذه المسائل بقواعد ثابتة يرجع اليها الدارسون ، وإن كان الاستقراء يقود الى أسس عامة كما فعل ابن الأثير الذي قال : «وأما فعل وافعوعل فانا نقول : «أعشب المكان ، فاذا كثر عشبه قلنا : اعشوشب. فلفظة «افعوعل» للتكثير ، على أني استقريت هذه اللفظة في كثير من الألفاظ فوجدتها عذبة طيبة على تكرار حروفها كقولنا : اخشوشن المكان ، واغرورقت العين ، واحلولى الطعم وأشباهها. وأما «فعلة» نحو : همزة ولمزة وجثمة ونومة ولكنة ولحنة وأشباه ذلك فالغالب على هذه اللفظة أن تكون حسنة ، وهذا أخذته بالاستقراء ، وفي اللغة مواضع كثيرة لا يمكن استقصاؤها. فانظر الى ما يفعله اختلاف الصيغة بالألفاظ ، وعليك أن تتفقد أمثال هذه المواضع لتعلم كيف تضع يدك في استعمالها ، فكثيرا ما يقع فحول الشعراء والخطباء في مثلها ، ومؤلف الكلام من كاتب وشاعر إذا مرّت به ألفاظ عرضها على ذوقه الصحيح فما يجد الحسن منها
__________________
(١) تواهقت الابل : مدت أعناقها وتبارت في السير.
رتك البعير ؛ عدا في مقاربة خطو. خود ؛ سار مسرعا.
(٢) الأحزاب ٤٨.
(٣) السلهب ؛ الطويل.
(٤) الحجر ٣.
(٥) المدثر ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٢٨.
(٦) الليت ؛ صفحة العنق. الأخدع ؛ عرق في صفحة العنق.
(٧) ص ٢٩.
(٨) الزمر ٢١.