وسار البلاغيون على خطا المصري في التسمية والتعريف (١) ، وقال المدني : «وزاد بعضهم : وينبغي أن يكون المراد انه إذا جرد عن القرائن ولم ينظر الى القائل والمقول فيه كان احتماله للمعنيين على السوية» (٢). وعقد العلوي فصلا للابهام والتفسير وقال : «إنّ المعنى المقصود إذا ورد في الكلام مبهما فانه يفيده بلاغة ويكسبه إعجابا وفخامة ، وذلك لانه إذا قرع السمع على جهة الابهام فان السامع له يذهب في إبهامه كل مذهب. ومصداق هذه المقالة قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ)(٣) ثم فسّره بقوله : «أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين» (٤).
ولكن الابهام عند البلاغيين المتأخرين ولا سيما أصحاب البديعيات هو ما ذهب اليه المصري الذي ذكر له قول الشاعر مثالا :
جاء من زيد قباء |
ليت عينيه سواء |
فما علم هل أراد أنّ الصحيحة تساوي السقيمة أو العكس.
ومن إبهام العرب قول رجل من بني عبد شمس بن سعد بن تميم :
تضيّفني وهنا فقلت أسابقي |
الى الزاد شلّت من يديّ الأصابع |
|
ولم تلق للسعديّ ضيفا بقفرة |
من الأرض إلّا وهو صديان جائع |
فانّ ظاهر الشعر مبهم معناه فيظن سامعه أنه أراد ضيفا من البشر فيكون قد هجا به نفسه ، وانما هو يصف ذئبا غشي رحله في الليل وهو بالقفر ، وهذا فخر محض.
وكان ابن الأثير قد ذكر هذا الفن في الفصل الذي عقده للحكم على المعاني وقال إنّ المتنبي كثيرا ما يقصد الابهام في كافورياته ، ومن ذلك قوله في كافور :
فما لك تعنى بالأسنّة والقنا |
وجدّك طعّان بغير سنان |
فان هذا بالذم أشبه منه بالمدح لانه يقول : «لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك بل بجد وسعادة ، وهذا لا فضل فيه ؛ لان السعادة تنال الخامل والجاهد (٥) ومن لا يستحقها» (٦).
ومن أمثلة الابهام التي ذكرها المدني قوله تعالى حكاية عن اليهود : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)(٧). قال الزمخشري : «قولهم : «غير مسمع» حال من المخاطب ، أي اسمع وأنت غير مسمع ، وهو قول ذو وجهين ، يحتمل الذم أي : اسمع منا مدعوا عليك ـ بلا سمعت ـ لانه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع فكان أصمّ غير مسمع. قالوا ذلك اتكالا على أنّ قولهم ـ لا سمعت ـ دعوة مستجابة او اسمع غير مجاب الى ما تدعو اليه. ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك لم تسمع شيئا ، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون «غير مسمع» مفعول «اسمع» أي : اسمع كلاما غير مسمع اياك لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه. ويحتمل المدح أي :اسمع كلاما غير مسمع مكروها ، من قولك اسمع فلان فلانا إذا سبّه. وكذلك قولهم «راعنا» يحتمل راعنا نكلمك أي ارقبنا وانتظرنا ، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها وهي راعينا ، فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله ـ صلّى الله
__________________
(١) حسن التوسل ص ٣١١ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٧٤ ، خزانة الأدب ص ٧٩ ، نفحات ص ٦٦ ، شرح الكافية ص ٨٩.
(٢) أنوار الربيع ج ٢ ص ٥.
(٣) الحجر ٦٦.
(٤) الطراز ج ٢ ص ٧٨.
(٥) كذا في طبعات المثل السائر ، وفي أنوار الربيع ج ٢ ص ١٦ ؛ الجاهل.
(٦) المثل السائر ج ١ ص ٣٥.
(٧) النساء ٤٦.