حتى يصحّ التشبيه للشاعرين جميعا وإلا كان تشبيها بعيدا غير واقع موقعه الذي أريد له. وإذا تأملت أشعار القدماء لم تعدم فيها أبياتا مختلفة المصاريع ، كقول طرفة :
ولست بحلّال التلاع مخافة |
ولكن متى يسترفد الناس أرفد |
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول. وكقول الأعشى :
وإنّ امرء أهواه بيني وبينه |
فياف تنوفاة وبهماء خيفق |
|
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته |
وأن تعلمي أنّ المعان موفّق (١) |
فقوله : «وأن تعلمي أنّ المعان موفق» غير مشاكل لما قبله. وكقوله :
أعزّ أبيض يستسقى الغمام به |
لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا |
فالمصراع الثاني غير مشاكل للاول وإن كان كل واحد منهما قائما بنفسه».
ومن هذا الفن قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى)(٢) ، فانه لم يراع فيه مناسبة الريّ للشبع ، والاستظلال للبس ، بل روعيت المناسبة بين اللبس والشبع في عدم الاستغناء عنهما وانهما من أصول النعمة ، وبين الاستظلال والريّ في كونهما تابعين لهما ومكملين لمنافعهما ، وهذا أدخل في الامتنان لما في تقديم أصول النعم وإرداف التوابع من الاستيعاب.
ائتلاف المعنى مع الوزن :
قال قدامة : «هو أن تكون المعاني تامة مستوفاة لم يضطر الوزن الى نقصها عن الواجب ولا الى الزيادة فيها عليه ، وأن تكون المعاني أيضا مواجهة للغرض لم تمتنع من ذلك ، ولم تعدل عنه من أجل إقامة الوزن والطلب لصحته» (٣). وذكر أنّ عيوب ائتلاف المعنى والوزن المقلوب والمبتور ، مثال المقلوب قول عروة بن الورد :
فلو اني شهدت أبا سعاد |
غداة غدا بمهجته يفوق (٤) |
|
فديت بنفسه نفسي ومالي |
وما آلوك إلّا ما أطيق |
أراد أن يقول : «فديت نفسه بنفسي» فقلب المعنى.
ومثال المبتور قول عروة بن الورد :
فلو كاليوم كان عليّ أمري |
ومن لك بالتدبّر في الأمور |
فهذا البيت ليس قائما بنفسه في المعنى ، ولكنه أتى بالبيت الثاني بتمامه فقال :
إذن لملكت عصمة أمّ وهب |
على ما كان من حسك الصّدور (٥) |
وتبعه البلاغيون الآخرون في هذا الفن ومنهم :المصري ، وابن مالك ، والحموي ، والسيوطي ، والمدني (٦).
ائتلاف الوزن مع المعنى :
وهو «ائتلاف المعنى مع الوزن» ، وقد سماه كذلك المدني ، وقال في تعريفه : «هذا النوع عبارة عن أن
__________________
(١) التنوفة ؛ القفر. الخيفق ؛ الصحراء الواسعة يخفق فيها السراب.
(٢) طه ١١٨ و ١١٩.
(٣) نقد الشعر ص ١٩٠ ، ٢٥٢ ، الموشح ص ١٢٨.
(٤) فاق الرجل ؛ أشرفت نفسه على الخروج أو مات ..
(٥) الحسكة ؛ العداوة والحقد.
(٦) تحرير التحبير ص ٢٢٣ ، المصباح ص ١١٦ ، خزانة الأدب ص ٤٣٨ ، شرح عقود الجمان ص ١٥٥ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٢٧ ، نفحات ص ٣٣٤ ، شرح الكافية ص ٢٥٤.