صار الى مشافهة الممدوح والتصريح باسمه خاطب عند ذلك نفسه مبشرا لها بالبعد عن المكروه والقرب من المحبوب ، ثم جاء بالبيت الذي يليه معدولا به عن خطاب نفسه الى خطاب غيره وهو أيضا خطاب لحاضر فقال : «هنالك تلقى الجود». والفائدة بذلك أنّه يخبر غيره بما شاهده كأنه يصف له جود الممدوح وما لاقاه منه إشارة بذكره وتنويها باسمه وحملا لغيره على قصده وفي صفته جود الممدوح بتلك الصفة الغريبة البليغة وهي قوله : «حيث قطّعت تمائمه» ما يقتضي له الرجوع الى خطاب الحاضر ، والمراد بذلك أنّ محل الممدوح هو مألف الجود ومنشؤه ووطنه. وقد يراد به معنى آخر ، وهو أنّ هذا الجود قد أمن عليه الآفات العارضة لغيره من المنّ والمطل والاعتذار وغير ذلك إذ التمائم لا تقطع إلا عمن أمنت عليه المخاوف» (١).
ومن الرجوع من الخطاب الى الغيبة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(٢).
والثاني : الرجوع عن الفعل المستقبل الى فعل الأمر وعن الفعل الماضي الى فعل الأمر فالأول كقوله تعالى : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ، قالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(٣).
ومن الرجوع عن الفعل الماضي الى فعل الأمر قوله تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٤).
الثالث : الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل بالماضي ، فالأول كقوله تعالى :(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)(٥).
وعلى هذا ورد قول تأبط شرا :
بأنّي قد لقيت الغول تهوي |
بسهب كالصحيفة صحصحان |
|
فأضربها بلا دهش فخرّت |
صريعا لليدين وللجران (٦) |
والضرب الثاني وهو المستقبل كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)(٧).
وليس في كتب البلاغة الأخرى أوسع مما ذكر ابن الأثير ، وإن كان القزويني رجع الى السكاكي وأدخل الالتفات في علم المعاني وتبعه شراح تلخيصه كالسبكي والتفتازاني والسيوطي والاسفراييني والمغربي (٨). أما الذين لم يتبعوا السكاكي فقد بحثوه في باب مستقل وإن لم يخرجوا على الاتجاه العام الذي ساد قبلهم (٩) ، غير أنّ المصري قال : «وفي
__________________
(١) المثل السائر ج ٢ ص ١٠ ـ ١١.
(٢) يونس ٢٢.
(٣) هود ٥٣ ـ ٥٤.
(٤) الأعراف ٢٩.
(٥) فاطر ٩.
(٦) السهب ؛ الأرض المستوية. الصحصان ؛ الارض الواسعة. الجران ؛ مقدم العنق.
(٧) النمل ٨٧.
(٨) الايضاح ص ٧١ ، التلخيص ص ٩٤ ، عروس الافراح ج ١ ص ٤٦٣ ، المطول ص ١٣٠ ، المختصر ج ١ ص ٤٦٣ ، شرح عقود الجمان ص ٢٨ ، الاطول ج ١ ص ١٥٣ ، مواهب الفتاح ج ١ ص ٤٦٣.
(٩) الأقصى القريب ص ٤٤ ، الطراز ج ٢ ص ١٣١ ، التبيان ص ١٧٣ ، البرهان الكاشف ص ٣١٣ ، تحرير ص ١٢٣ ، بديع القرآن ص ٤٢ ، نضرة الاغريض ص ١٠٥ ، منهاج البلغاء ص ٣١٥ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١١٦ ، جوهر الكنز ص ١١٩ ، الفوائد ص ٩٨ ، البرهان ج ٣ ـ ـ ص ٣١٤ ، خزانة ص ٥٩ ، معترك ج ١ ص ٣٣٧ ، الاتقان ج ٢ ص ٤١ ، ٨٥ حلية اللب ص ٧٤ ، أنوار الربيع ج ١ ص ٣٦٢ ، نفحات الازهار ص ٥٣ ، التبيان في البيان ص ٢٣٢ ، شرح الكافية ص ٧٨.