تلك كانت وصيّة إبراهيم وحفيده يعقوب ، الوصيّة التي كرّرها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته ، والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته ، فليسمعها بنو إسرائيل : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
إنّه لمشهد عظيم الدلالة ، قويّ الإيحاء ، عميق التأثير ، ما هي القضيّة التي كانت تشغل بال ميّت محتضر في تلك الساعة الحرجة؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئنّ عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلّفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلّمها لهم في محضر يسجّل فيه كلّ التفصيلات؟
نعم ، إنّها العقيدة الصافية الخالصة ، والتي تجعل من الحياة زاهية لامعة مع الأبد.
وبعد فها هي الفرصة سانحة لتبلور تلك العقيدة وتخليصها من كدورات علتها عبر الزمان ، فقد جاءهم الرسول الذي يجدّد دعوتهم إلى الإسلام والاستسلام المحض ، وهو ثمرة الدعوة التي دعاهم إبراهيم عليهالسلام.
* * *
وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمّة التي أخذت بوصيّة إبراهيم ويعقوب ، وقد خلت وهذا الجيل الحاضر الذي حاول نبذ الوصيّة وتركها في غياهب النسيان فلا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين :
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) من مفاخر ومواقف محمودة. (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) من مآثم ومواضع ممقوتة. فلكلّ حساب ، ولكلّ عقيدة وعمل (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)(١) فكان النتاج : أن ليست هذه الأعقاب امتدادا لأولئك الأسلاف ، ولا صلة تربطهما ، ولا علاقة تجمعهما ، لا في المسيرة ولا في الاتّجاه.
* * *
وفي ظلّ هذا البيان التاريخي الحاسم ، لقصّة العهد مع إبراهيم ، وقصّة البيت الحرام كعبة للمسلمين ، ولحقيقة الوراثة وحقيقة الدين ؛ يناقش ادّعاءات أهل الكتاب المعاصرين لنزول
__________________
(١) الإسراء ١٧ : ٨٤.