قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)
وهذا تحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح والمقيم ؛ إنّها صوم رمضان ، الشهر الّذي أنزل فيه القرآن ـ بمعنى بدء نزوله كان في رمضان ليلة القدر ـ والقرآن كتاب هذه الأمّة الخالد ، والّذي أخرجهم من الظلمات إلى النور ، وجعلهم على محجّة من الهدى والبيّنات ، ومنحهم الضياء والفرقان ، فأنشأهم هذه النشأة ، وأبدل من خوفهم أمنا ، ومكّن لهم في الأرض ووهبهم المقوّمات الّتي صاروا بها أمّة ، ولم تكن من قبل شيئا. وهي بدون هذه المقوّمات ليست أمّة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء.
فلا أقلّ من الشكر إزاء هذه النعم الجسام ، بالاستجابة إلى صوم الشهر الّذي نزل فيه القرآن.
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أي من حضر منكم الشهر غير مسافر ، وشاهد الهلال أو أيقن به بأيّ وسيلة أخرى كانت موجبة للقطع برؤية الهلال.
وتأكيدا على وضع الصوم عن المسافر والمريض ، عاد مكرّرا قوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى) متن (سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). ذلك لأنّه تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) في جميع تشريعاته (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.) إذ لا حرج في الدين ، هذه هي القاعدة الكبرى لأسس التشريع في شريعة السماء فهي ميسّرة لا عسر فيها ، الأمر الّذي يوحي بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلّها ، وتطبع نفس المسلم بطابع خاصّ من السماحة الّتي لا تكلّف فيها ولا تعقيد ، سماحة تؤدّى معها كلّ التكاليف وكلّ الفرائض وكلّ نشاط في الحياة الجادّة ، وكأنّما هي مسيل الماء الجاري ، ونموّ الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء ، هذا ، مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيّام أخر ، لكي يتمكّن المضطّر من إكمال عدّة أيّام الشهر الّتي فاتته ، فلا يضيع عليه أجرها : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ؛) فلا تفوتكم ميزاتها ومثوباتها.
والصوم على هذا نعمة تستحقّ التكبير المستعقب للشكر والتقدير : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فهذه غاية من غايات الفريضة ، أن يشعر المؤمن بقيمة الهدى الّذي يسّره الله له ، ووفّقه الله على القيام به وأدائه بيسر وعافية ، الأمر الّذي يجده المؤمن في نفسه في فترة الصيام أكثر من كلّ فترة. حيث كفّ قلبه عن التفكير في معصية ، وكفّ جوارحه عن إتيانها ، وهو شاعر بالهدى ملموسا