وبعد فإذ تمّ عرض قصّة إبراهيم وإسماعيل عليهماالسلام وبنائهما للبيت الرفيع ، وما أبرزته هذه القصّة البديعة من سمات وصفات هي من جلائل سمات الكرام وما حوته أدعية هذا الأب والابن الحنونين على الذراري والأحفاد ، من درس وعبر وتبيين لموضع وراثة الأبناء لآبائهم الأعلام ، وما به يستحقّ الأحفاد أن يرثوا الأجداد.
بعد إذ تمّ ذلك ، يأتي السياق ليلتقط دلالته وإيحاءه ، ليواجه بهما الّذين ينازعون الأمّة المسلمة في الإمامة ، وينازعون نبيّ الإسلام النبوّة والرسالة وقيادته لهداية الناس جميعا ، عن استحقاق تليد وليس عن طارف.
نعم يجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) يحيد عن طريقته الواضحة وشريعته البيضاء اللائحة (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) سفيه مستهتر حيث أخذ في عكر الظلام ، مع وضوح المحجّة وظهور الحجّة؟!
(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) حيث أفضليّته على سائر الناس (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) معدود من عبادنا الصالحين الخلّص ، لم يعكر صفو زلاله كدر غبار. ولكن لم اصطفاه الله في الدنيا إماما ، ليكون في الآخرة من خير عباد الله الصالحين؟
نعم لم يكن لشيء سوى استسلامه لربّ العالمين : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ) ـ لفوره ـ : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) هذه هي ملّة إبراهيم وطريقته اللائحة المفضّلة : الإسلام الخالص الصريح .. ولم يكتف إبراهيم بنفسه ، إنّما تركها كلمة باقية في عقبه ، وجعلها وصيّة في ذرّيّته.
(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) ويعقوب هذا هو إسرائيل الذي ينتسب اليهود إليه ، ثمّ لا يلبّون وصيّته ووصيّة جدّه وجدّهم إبراهيم.
وها هو إبراهيم وحفيده يعقوب يذكّران ذراريهما بنعمة الله عليهم في اختياره الحنيفيّة دينا لهم : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) فلا تكن مشيتكم على خلاف هذا الاصطفاء الحنيف ، ولتكن مسيرتكم على منهجه مع الأبد. (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ..) وليكن ذلك شكرا منكم على نعمة هذا الاختيار وهذا الاصطفاء .. والحرص على ما اختاره الله لهم ، والاجتهاد في أن لا يتركوا هذه الأرض إلّا وهذه الأمانة محفوظة فيهم.
* * *