لاستعذار غير وجيه ، بعد أن عرفوا أنّ آباءهم كانوا على طريقة جهلاء : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)؟! إن هذا إلّا جمود فكريّ ورفض لشريعة العقل.
ومن ثمّ يمضى السياق ليرسم لهم صورة رزيّة تليق بهذا التقليد وهذا الجمود ، صورة البهيمة السارحة الّتي لا تفقه شيئا ، بل حتّى إذا صاح بها راعيها إنّما سمعت مجرّد صوت ولا تفقه ماذا يعني؟! بل هم أضلّ من هذه البهيمة ، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح ، وهم صمّ بكم عمي :
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ).
نعم لهم آذان وألسنة وعيون ، ولكن حيث لا ينتفعون بها فكأنّها لا تؤدّي وظيفتها الّتي خلقت لأجلها ، وكأنّهم لم توهب لهم آذان وأسماع وأبصار ، وهذا منتهى الزراية بمن يعطّل مشاعره ويغلق منافذ تفكيره ، ويتلقّى طريقته في الحياة من غير منابعها الأصل الرويّ ، فيترك المنبع الصافي الزلال ، ويلجأ إلى عفن المياه الراكدة من غير وعي ولا شعور. فيالها من تعاسة وسوء الحال في العاجل والمآل.
ملحوظة
قال الزمخشرى : لا بدّ ـ هنا في الآية ـ من مضاف محذوف تقديره : ومثل داعي الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع ، أو ومثل الّذين كفروا كبهائم الّذي ينعق ، والمعنى : ومثل داعيهم إلى الإيمان ـ في أنّهم لا يسمعون من الدعاء إلّا جرس النغمة ودويّ الصوت ، من غير إلقاء أذهان ولا استبصار ـ كمثل الناعق بالبهائم ، الّتي لا تسمع إلّا دعاء الناعق ونداءه الّذي هو تصويت بها وزجر لها ، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعي ، كما يفهم العقلاء ويعون.
قال : ويجوز أن يراد بما لا يسمع : الأصمّ الأصلخ (١) ، الّذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلّا النداء والتصويت لا غير ، من غير فهم للحروف.
وقيل : معناه : ومثلهم في اتّباع آبائهم وتقليدهم لهم ، كمثل البهائم الّتي لا تسمع إلّا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته ، فكذلك هؤلاء يتّبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حقّ أم باطل؟!
__________________
(١) الأصمّ : الّذي انسدّت منافذ أذنه وثقل عليه السماع. أمّا الأصلخ فهو الّذي ذهب سمعه نهائيا.