وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق : أنّ الإسلام ـ بمعنى إسلام الوجه لله وحده ـ كان هو الرسالة الأولى ، وكان هو الرسالة الأخيرة. هكذا اعتقد إبراهيم ، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، حتّى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى. ثمّ آلت أخيرا إلى ورثة إبراهيم من المسلمين. فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها ، ووريث عهودها وبشاراتها. ومن فسق عنها ، ورغب بنفسه عن ملّة إبراهيم ، فقد فسق عن عهد الله ، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشاراته.
وعندئذ تسقط كلّ دعاوي اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم ، لمجرّد أنّهم أبناء إبراهيم وحفدته .. لقد سقطت عنهم الوراثة منذ أن انحرفوا عن هذه العقيدة.
وعندئذ تسقط كذلك كلّ دعاوي قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته ، لأنّهم قد فقدوا حقّهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده ، بانحرافهم عن عقيدته.
ثمّ تسقط كلّ دعاوي اليهود فيما يختصّ بالقبلة التي ينبغي أن يتّجه إليها المسلمون. فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم.
كلّ ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب ؛ حافل بالإشارات الموحية ، والوقفات العميقة الدلالة ، والإيضاح القويّ التأثير (١). فلنأخذ في استعراض هذا النسق العالي في ظلّ هذا البيان المنير :
* * *
(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) هي مواقفه المشهودة التي قضاها بسلام (فَأَتَمَّهُنَ) وفّاهنّ (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(٢). وبذلك استحقّ تلك البشرى ، أو تلك الثقة الكبرى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قدوة ، يقودهم إلى الله ، وأسوة يأخذ بهم إلى سعادة الحياة الأبديّة.
وعند ذلك تداركت إبراهيم فطرته الإنسانيّة العليا : الرغبة في امتداد الذات الكريمة عن طريق الذراري والأحفاد ذلك الشعور الفطريّ العميق ، الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة وتزدهر وتمضي في طريقها المرسوم ، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق ، وتتعاون الأجيال جميعا وتتساوق
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ : ١٥٢ ـ ١٥٤.
(٢) نجم ٥٣ : ٣٧.