ثمّ ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة؟
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) : يعلمون أنّ الكعبة هو أوّل بيت وضع للناس (١). وكان إبراهيم ـ أبو الأنبياء ـ هو الّذي رفع قواعده.
وهو جدّ هذه الأمّة الوارثة ، ويعلمون أنّه الأحقّ بالتوجّه إليه. ولكنّهم مع هذا ، يتلهّجون بغير ما يوحيه هذا العلم الرشيد. إذن فما على المسلمين أن لا يبالوا بسفاسفهم المهرّجة ، وهي لا تلوي على شيء. فالله هو الوكيل الكفيل بردّ مكرهم وكيدهم :
(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
إنّهم ليسوا بمن يقتنع بدليل ولا تخضعهم حجّة. حيث الّذي يعوزهم ليس هو الدليل. إنّما يعوزهم الإخلاص والتجرّد عن الهوى. ولم يكونوا على استعداد للتسليم للحقّ مهما كان واضحا لائحا :
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) حجّة أو برهان قاطع (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) فهم في عناد ولجاج يقوده الهوى ويحدوه الغرض وتؤرثه المطامع (٢). الأمر الّذي ليس يعالجه برهان ولا تفيده إقامة دليل!
(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) بعد وضوح البرهان.
(وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ)(٣) حيث العداء والمنافسة قائمة بينهم على أوار.
ومن كان هذا شأنهم لا يحتشمون قريبا ولا بعيدا وهم على اختلاف دائم. فلا صلاحيّة لهم ليكونوا قدوة لغيرهم من الهادفين إلى السّلام. إذن فليس ينبغي لمسلم مستسلم للحقّ الصّراح أن يتّبع آثار من وجدهم على مثل هذا التنافر والشقاق.
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) خطاب لمن استمع هذا المقال (أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الّذين انحرفت بهم الأهواء فتاهوا في غياهب الضلال.
فليس للمسلم الواعي أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلّب. وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال.
ومن شدّة هذا اللحن الصارم نلمح أنّه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين ؛ غمرتهم
__________________
(١) آل عمران ٣ : ٩٦.
(٢) أي توقد لهبه المطامع.
(٣) حيث النصارى تتّجه إلى المشرق واليهود إلى بيت المقدس. (آلاء الرحمان ١ : ١٣٧).