إنّها تأخذ بصلب الدين في إمعان وتعمّق وتفكير. كما أنّها وسط في التنظيم والتدبير وفي كلّ ما يرتبط وعلاقته بالحياة.
وبذلك جاءت الإشارة في سورة الحجّ : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)(١) فالأمّة برمّتها مسؤولة تجاه الرسول ، في أداء رسالة الله في الأرض.
وعليه فتمتاز هذه الأمّة باستقلالها الذاتيّ في جميع مجالات الحياة معنويّاتها ومادّياتها.
نعم كان الاتّجاه الأوّل ـ نحو بيت المقدس ـ لغرض الاختبار (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).
(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) «إن» مخفّفة عن المثقّلة ، أي وبحقّ كان تكليفا اختباريّا شاقّا. أمّا الّذين تجرّدت نفوسهم طوع إرادة الله. فلم يكن ذلك صعبا عليهم : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) هدى الله قلوبهم فتفتّحت منافذها لتلقّي إشعاعات رحمته تعالى الخاصّة بالمؤمنين.
(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) حيث لا تشبه عليه خلجات الصدور (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ) عموما (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). ذو رحمة شاملة وعطف عامّ.
وبهذا يفيض على قلوب المسلمين الطمأنينة ، ويذهب عنها القلق ، ويجعلهم على رضى وثقة ويقين.
وبعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في أمر القبلة : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
إنّ هذا التعبير يصوّر حالة النبيّ وضراعته إلى الله كي يجعل له مخرجا من ذلك المأزق.
وجاءت الاستجابة في تعبير قاطع ، تكليفا له ولأمّته حيثما كانوا من أنحاء الأرض وعلى امتداد الزمان. قبلة واحدة تجمع هذه الأمّة وتوحّد صفوفها على اختلاف مواطنها واختلاف أجناسها ومآربها ، فتحسّ أنّها جسم واحد وكيان واحد ، تتّجه إلى هدف واحد ، وتسعى لتحقيق منهج واحد ، منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا ، وتؤمن برسول واحد ، وتتّجه إلى قبلة واحدة ، في صفّ متراصّ حيث شرق الأرض وغربها.
__________________
(١) الحجّ ٢٢ : ٧٨.