كلّ أمر اعتباري كانت المصلحة تنوط بذات الاعتبار محضا.
وإذ كان الأمر على ذلك فالاتّجاه إلى أيّ جهة ، اتّجاه إلى الله ، حيث لا يحجزه مكان ولا يخلو منه مكان.
ومن ثمّ (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالعمدة اتّباع الأمر والانصياع للتكليف الموظّف والطاعة والاستسلام لأوامره تعالى ، والكلّ هادية إلى سبيل الرشاد.
فالجهات والأماكن لافضل لها ذاتيّا ، إنّما يفضّلها ويخصّصها اختيار الله وتوجيهه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
ثمّ ينتقل الحديث إلى بيان حقيقة هي أفخم وأضخم ، وهي ما تحمله هذه الأمّة من رسالة خالدة إلى سائر الأمم جميعا ومع الأبد. وهذه هي الفضيلة الكبرى الّتي منح الله لهذه الأمّة تكريما لها وتعزيزا لجانبها. وهي وظيفتها الضخمة في هذه الأرض ، ومكانتها العظيمة في ركب البشريّة السائرة إلى الأمام ، ومن ثمّ فهي تلعب دورها الأساسي في حياة الناس!
(وَكَذلِكَ) أي بهذا النمط من الاستعداد الذاتي والاستقلال في العقيدة والسلوك (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) عرفاء يتحمّلون مسؤوليّة إقامة العدل بين الناس (وَيَكُونَ الرَّسُولُ) بدوره (عَلَيْكُمْ شَهِيداً) مسؤولا عنكم في أداء رسالة الله إليكم بتمام وكمال.
نعم إنّها الأمّة الوسط الّتي تشهد على الأمم جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ، وتضع لهم معايير وقيما ، وتبدي فيهم رأيها ، ليكون هو الرأي المعتمد عند الناس جميعا. فتزن بها قيمهم وتصوّراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم ، فتفصل في أمرها ، وتقول : هذا حقّ وهذا باطل. لا الّتي تتلقّى من الناس تصوّراتها وقيمها وموازينها. فهي شهيدة على الناس ومسؤولة بالقيام ببسط العدل بينهم.
وبينما هي تشهد على الناس وتتحمّل مسؤوليّة العدل بينهم ، إذاهم في مرأى ومسمع نبيّهم وخلفائه المرضيّين ، فيشهدون مواضع الأمّة في أداء رسالة الله في الأرض.
نعم إنّها الأمّة الوسط بكلّ معاني الكلمة : وسط لإقامة العدل بين الناس. ووسط في التصوّر والاعتقاد. لا تغلو في التجرّد الروحي ولا تبالغ في الارتكاس المادي. ووسط في التفكير والشعور. لا تجمد على ظاهر التعبير لتغلق منافذ المعرفة. ولا تتّبع كلّ ناعق أو تقلّد تقليد القردة.