لأمر هذه الفريضة وترغيب فيها.
قال : أبهم الله هؤلاء الّذين من قبلنا. والمعروف أنّ الصوم مشروع في جميع الملل حتّى الوثنيّة ، فهو معروف عن قدماء المصريّين في أيّام وثنيّتهم ، وانتقل منهم إلى اليونان ، فكانوا يفرضونه لا سيّما على النساء. وكذلك الرومانيّون كانوا يعنون بالصيام. ولا يزال وثنيّو الهند وغيرهم يصومون إلى الآن.
وليس في أسفار التوراة الّتي بين أيدينا ما يدلّ على فريضة الصيام ، وإنّما فيها مدحه ومدح الصائمين. (١) وثبت أنّ موسى عليهالسلام صام أربعين يوما (٢). وهو يدلّ على أنّ الصوم كان معروفا مشروعا ومعدودا من العبادات. واليهود اليوم يصومون أسبوعا تذكارا لخراب أورشليم وأخذها. ويصومون يوما من شهر آب.
قال السيّد رشيد رضا : وينقل أنّ التوراة فرضت عليهم صوم اليوم العاشر من الشهر السابع ، وأنّهم يصومونه بليلته. ولعلّهم كانوا يسمّونه عاشوراء. ولهم أيّام أخر يصومونها نهارا.
قال الشيخ : وأمّا النصارى فليس في أناجيلهم المعروفة نصّ في فريضة الصوم ، وإنّما فيها ذكره ومدحه واعتباره عبادة ، كالنهي عن الرياء وإظهار الكآبة فيه ، بل تأمر الصائم بدهن رأسه وغسل الوجه حتّى لا تظهر عليه أمارة الصيام فيكون مرائيا كالفرّيسيّين (٣). وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير الّذي قبل عيد الفصح ، وهو الّذي صامه موسى وكان يصومه عيسى عليهماالسلام والحواريّون. ثمّ وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام ، وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف. ومنها صوم عن اللحم (٤) ، وصوم عن السمك ، وصوم عن البيض واللبن. وكان الصوم المشروع عند الأوّلين منهم كصوم اليهود ، يأكلون في اليوم والليلة مرّة واحدة ، فغيّروه وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار ، وفي قصّتي زكريّا ومريم عليهماالسلام أنّهم كانوا يصومون عن الكلام ، أي مع الصيام
__________________
(١) راجع : قاموس الكتاب المقدّس لجيمز هاكس : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.
(٢) راجع : سفر التثنية (أص ٩ : ٩).
(٣) جماعة كان دأبهم التقشّف والتزهّد في الحياة ، إلى حدّ انعزالهم عن الجماعة ، فكانوا يسمّون : المنعزلين. راجع : قاموس الكتاب المقدّس : ٦٥٢. على حدّ الصوفيّة والدراويش عندنا.
(٤) وكان صوما شديد الكراهيّة. قاموس الكتاب المقدس : ٤٢٨.