قال ابن عاشور : والمراد من (قَبْلِكُمْ) من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع ، وهم أهل الكتاب أعني اليهود ؛ لأنّهم الّذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شؤونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة.
وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم ، وهو الشهر المسمّى عندهم «تسري» يبتدىء الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر ، وهو يوم كفّارة الخطايا ويسمّونه «كبّور».
ثمّ إنّ أحبارهم شرّعوا صوم أربعة أيّام أخرى ، وهي الأيّام الأوّل من الأشهر : الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم ، تذكارا لوقائع بيت المقدس. وصوم يوم «بوريم» تذكارا لنجاتهم من غضب ملك الفرس «خشايار شاه» في قصّة «استيرا». وعندهم صوم التطوّع.
[٢ / ٤٦٣٩] وفي الحديث : «أحبّ الصيام إلى الله : صيام داوود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما» (١).
أمّا النصارى فليس في شريعتهم نصّ على تشريع صوم زائد على ما في التوراة ، فكانوا يتّبعون صوم اليهود.
[٢ / ٤٦٤٠] وفي صحيح مسلم عن ابن عبّاس : قالوا : يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّ يوم عاشوراء تعظّمه اليهود والنصارى (٢).
ثمّ إنّ رهبانهم شرّعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح ، إذ صام أربعين يوما قبل بعثته. ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها. إلّا أنّهم يتوسّعون في صفة الصوم ، فهو عندهم : ترك الأقوات القويّة والمشروبات ، أو هو تناول طعام واحد في اليوم ، يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة (٣).
* * *
قال الشيخ محمّد عبده : الصوم ، إعداد للنفس وتهيئة لها لتقوى الله بالمراقبة له وتربية الإرادة على كبح جماح الشهوات ليقوى صاحبها على ترك المضارّ والمحرّمات. وقد كتب على أهل الملل السابقة ، فكان ركنا من كلّ دين ، لأنّه من أقوى العبادات وأعظم ذرائع التهذيب. وفي إعلام الله لنا بأنّه فرضه علينا كما فرضه على الّذين من قبلنا ، إشعار بوحدة الدين في أصوله ومقصده ، وتأكيد
__________________
(١) مسلم ٣ : ١٦٦.
(٢) المصدر : ١٥١.
(٣) التحرير والتنوير لابن عاشور ٢ : ١٥٦.