وقد أنكر أبو مسلم الأصبهاني نسخ الآية ، لوجوه قرّرها الإمام الرازي كما يلي : قال : اختلفوا في هذه الآية أنّها منسوخة أم لا ، واختار أبو مسلم الأصبهاني عدم النسخ لوجوه :
أحدها : أن لا تنافي بين هذه الآية وآية المواريث ، إذ يمكن أن يقال ـ في الجمع بين الآيتين ـ : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين حسب آية المواريث. أو كتب عليكم بتوفير ما أوصى الله بشأن الوالدين والأقربين ، وأن لا ينقص من سهامهم شيء.
وثانيها : أنّه لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصيّة بالميراث عطيّة من الله. والوصيّة عطيّة ممّن حضره الموت. فالوارث يجمع ـ بحكم الآيتين ـ بين الوصيّة الّتي هي عطيّة ، وبين الميراث الّذي هو فرض من الله.
وثالثها : لو فرضنا التنافي بين الآيتين لأمكن الجمع بجعل آية الميراث مخصّصة لآية الوصيّة. حيث هذه الآية توجب الوصيّة للأقربين ، وآية الميراث تخرج القريب الوارث ، ويبقى القريب غير الوارث داخلا تحت الآية ، وذلك لأنّ من الوالدين من يرث ومن لا يرث ، بسبب اختلاف الدين أو الرقّيّة أو القتل. ومن الأقربين من لا يحجب عن الإرث ومن كان يحجب عن الميراث ، فكلّ من كان من هؤلاء وارثا لم تجز الوصيّة له ، ومن لم يكن وارثا جازت بشأنه ولأنّه صلة رحم وقد أكّد الله عليه بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)(١). وبقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى)(٢).
قال الرازي : فهذا تقرير مذهب أبي مسلم في هذا الباب (٣).
واعترض عليه الحافظ ابن كثير في التفسير قائلا : والعجب من أبي عبد الله محمّد بن عمر الرازي ، كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصبهاني أنّ هذه الآية غير منسوخة ، وإنّما هي مفسّرة بآية المواريث ؛ ومعناه : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين ، من قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ). قال ـ أي الفخر الرازي ـ : وهو قول أكثر المفسّرين والمعتبرين من الفقهاء (٤).
قلت : ولا عجب بعد عدم توفّر شرائط النسخ هنا ، حسبما تقرّر الكلام فيه.
__________________
(١) النساء ٤ : ١.
(٢) النحل ١٦ : ٩٠.
(٣) التفسير الكبير ٥ : ٦١ ـ ٦٢.
(٤) ابن كثير ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨.