عندي مأخوذ من الكتاب الّذي هو رسم وخطّ ، وذلك أنّ الله تعالى ذكره قد كتب جميع ما فرض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ ، فقال تعالى ذكره في القرآن : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(١) وقال : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ)(٢) فقد تبيّن بذلك أنّ كلّ ما فرضه علينا ففي اللوح المحفوظ مكتوب.
فمعنى قوله ـ إذ كان ذلك كذلك ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ :) كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصاص في القتلى فرضا أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.
وأمّا القصاص فإنّه من قول القائل : قاصصت فلانا حقيّ قبله من حقّه قبلي ، قصاصا ومقاصّة فقتل القاتل بالذي قتله قصاص ، لأنّه مفعول به ، مثل الّذي فعل بمن قتله ، وإن كان أحد الفعلين عدوانا والآخر حقّا ، فهما وإن اختلفا من هذا الوجه ، فهما متّفقان في أنّ كلّ واحد قد فعل بصاحبه مثل الّذي فعل صاحبه به ، وجعل فعل وليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليّه قصاصا ، إذ كان بسبب قتله استحقّ قتل من قتله ، فكأنّ وليّه المقتول هو الّذي ولّي قتل قاتله فاقتصّ منه.
وأمّا القتلى ، فإنّها جمع قتيل ، كما الصرعى جمع صريع ، والجرحى جمع جريح. وإنّما يجمع الفعيل على الفعلى ، إذا كان صفة للموصوف به بمعنى الزمانة والضرر الّذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه ، نحو القتلى في معاركهم ، والصرعى في مواضعهم ، والجرحى وما أشبه ذلك.
فتأويل الكلام إذن : فرض عليكم أيّها المؤمنون القصاص في القتلى أن يقتصّ الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى. ثمّ ترك ذكر «أن يقتصّ» اكتفاء بدلالة قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) عليه.
* * *
وقال في تأويل قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ :) اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : فمن ترك له من القتل ظلما من الواجب كان لأخيه عليه من القصاص ، وهو الشيء الّذي قال الله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ) من العافي
__________________
(١) البروج ٨٥ : ٢١ ، ٢٢.
(٢) الواقعة ٥٦ : ٧٧ و ٧٨.