وقد يستوجب السماح عنه رجاء إصلاحه والتعاضد معه في مسيرة الحياة ، فهناك مجال العفو والإغماض عمّا جنى.
وهكذا فليشعر الّذي جنى ـ مهما سفه وحمق في عمله هذا البغيض ـ أنّ وليّ الدم الّذي هتك حريمه ، هو أخوه الّذي تفرّط بشأنه ، وعليه فليرعو ويجدّد العهد بشأنه ويحفظ حريمه أكثر وأوفر.
إذن (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) وهذا العفو يكون ـ أكثريّا ـ بقبول الدية من أولياء الدم بدلا من قتل الجاني. ومتى قبل وليّ الدم هذا ورضيه ، فينبغي إذن أن يطالبه بالمعروف والرضا والمودّة ولا يشدّد عليه بما يوجب حرجا عليه. كما ويجب على الجاني أو وليّه أن يقوم بوظيفته بوجه حسن ، فيؤدّي المال بإحسان وإجمال وإكمال ، تحقيقا لصفاء القلوب ، وشفاء لجراح النفوس ، وتقوية لأواصر الأخوّة بين البقيّة الأحياء.
وقد امتنّ الله على المؤمنين بتشريع الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). إذ قد تمرّد عن قانون الفضل والإحسان ، إضافة على تمرّده عن قانون العدل والانصاف ومن ثمّ فإنّ له فوق العذاب ـ يتوعده به ـ في الآخرة ، تعيّن قتله وأن لا تقبل منه الدية البتّة. لأنّ الاعتداء بعد التراضي والقبول ، نكث للعهد ، وإهدار للتراضي ، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب. ومتى قبل وليّ الدم الدية ، فلا يحقّ له أن يعود فينتقم ويعتدي.
قال سيّد قطب : ومن ثمّ ندرك سعة آفاق الإسلام ، وبصره بحوافز النفس البشريّة عند التشريع لها ، ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع .. إنّ الغضب للدم فطرة وطبيعة ، فالإسلام يلبّيها بتقرير شريعة القصاص. فالعدل الجازم هو الّذي يكسر شرة النفوس ، ويفثأ حنق الصدور. ويردع الجاني كذلك عن التمادي. ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبّب في العفو ، ويفتح له الطريق ، ويرسم له الحدود ؛ فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص ، دعوة إلى التسامي في حدود التطوّع ، لا فرضا يكبت فطرة الإنسان ويحملها على ما لا تطيق! (١)
وفي الرواية عن ابن عبّاس ـ كما يأتي ـ أنّ شريعة التصالح على الدية ، تخفيف على هذه الأمّة ، لم تكن في شرائع سالفة (٢) ، سوى القود أو التعذيب إمّا بنفي البلد أو الحبس في السجون
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ : ٢٣٣.
(٢) الطبري ٢ : ١٥١.