نعم ، ليس للمؤمن إلّا أن يستقيم على طريقته (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)(١). فيعتزّ بالحقّ المستمدّ مباشرة من ربّه (٢) ، وبالسمة التي يسمهم بها ربّهم الجليل ، فيعرمون بها بين الناس (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)(٣). تلك كانت : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ).
قال سيّد قطب : ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة .. إنّ صدر الآية من كلام الله التقريري : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً). أمّا باقيها فهو من كلام المؤمنين. يلحقه السياق ـ بلا فصل ـ بكلام البارىء ـ سبحانه ـ في السياق. وكلّه قرآن منزل. ولكنّ الشطر الأوّل حكاية عن قول الله ، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين. وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد ، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربّهم ، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم. وأمثال هذا في القرآن كثير ، وهو ذو مغزى كبير. (٤)
* * *
ثمّ تمضي الحجّة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة :
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ).
نعم لا مجال للجدل في الله وهو ربّنا وربّكم كما أنّ لنا أعمالنا نحاسب عليها .. ولكم أعمالهم تتحوّل وزرها .. غير أنّ هناك فارق كبير يفصل بيننا وبينكم ، إذ نحن متجرّدون له ومخلصون في عبادته لا نشرك به شيئا ولا ندعو معه أحدا.
وهذا تعريض لطيف بالمدّعين للتوحيد ، فإمّا يجعلون له شريكا في الربوبيّة ، كما صنع أهل الكتاب أو يشركون في عبادته ، مع اعترافهم بأنّ الصانع تعالى واحد لا شريك له. فلم يكن توحيد كلّ من الفئات خالصا ، كما هو عند المسلمين.
* * *
وينتقل السياق إلى مجال آخر من مجالات الجدل ، ممّا لا ينبغي الجدل فيه.
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) وهم أسبق
__________________
(١) فصّلت ٤١ : ٣٠.
(٢) حيث ذيل الآية : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا ...).
(٣) الفتح ٤٨ : ٢٩.
(٤) في ظلال القرآن ١ : ١٦٤ ـ ١٦٥.