ولعلّ هذا التحديد مستفاد من قوله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(١) غير أنّ الآية ناظرة إلى القوم الجحود ممّن أنكر المعاد وأعرض بجانبه عن قبول الحقّ وقد رفض شريعة السماء ، فكانوا ممّن محضوا الكفر والعصيان محضا وعاندوا وأصرّوا واستكبروا في الأرض استكبارا.
أمّا الّذي لم يمحض الإيمان ولم يمحض الكفر ، فهو خارج عن محدودة الآية الكريمة.
نعم إنّ من الناس من يعيش لاهيا لا يهمّه سوى بطنه وفرجه ، ولا يعبأ بدين ولا شريعة سوى ما حمّلته عليه بيئته الخاصّة ، إن مسلما أو غيره من سائر النحل أو لا دين له. فهو يعيش همجا رعاعا حسب مجرى المحيط الّذي يعيش فيه ، لا رأي له ولا اعتقاد ، ولا عمل عن نيّة صادقة.
ولعلّ أكثرية الناس ـ من أتباع أيّ دين من الأديان ـ على هذا النمط غير الواعي ، يعيشون عيشة سائر الأحياء من حيوان وبهائم وديدان. فكما يلهى عن أولئك بالموت ، كذلك يلهى عن أناس لم يرتق مستواهم عن سائر الحيوان ، فيلهى عنهم أبديّا على غرار أشكالهم من الوحوش.
أمّا قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)(٢). فلا يعني البعث يوم النشور. بل هو من أشراط الساعة. قال تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ)(٣) وبقية الآيات تعني الحوادث يوم الحشر.
والمراد بحشر الوحوش : ذعرها ونفورها عند زلزلة الساعة لأنّ الحشر خروج متبعثر عن إزعاج ونفور وهكذا تذهل الوحوش عند حدوث أهوال قيام الساعة وتهيم لوجهها من شدّة الخوف. كما أنّ الجبال تدكدك وتنسف نسفا من أهوالها.
قال ابن الأثير : وفي الحديث : «انقطعت الهجرة إلّا من ثلاث : جهاد أو نيّة أو حشر». أي جهاد في سبيل الله ، أو نيّة يفارق بها الرجل الفسق والفجور إذا لم يقدر على تغييره ، أو جلاء ينال الناس فيخرجون عن ديارهم.
قال : والحشر هو الجلاء عن الأوطان. وقيل : أراد بالحشر الخروج في النفير إذا عمّ (٤).
قال الله بشأن بني النضير أجلاهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن حصونهم : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ
__________________
(١) الكهف ١٨ : ٤٧.
(٢) التكوير ٨١ : ٥.
(٣) التكوير ٨١ : ١ ـ ٦.
(٤) النهاية ١ : ٣٨٨.