بل ذلك أيضا لا يخرج عن مقام الرضا ، فالمقدم على الحجامة والفصد راض به وهو متألّم بسببه لا محالة ، وقد تفيض عيناه إذا عظم ألمه.
وكتب ابن أبي نجيح يعزّي بعض الخلفاء : إنّ أحقّ من عرف حقّ الله تعالى فيما أخذ منه ، من عظم حقّ الله تعالى عنده فيما أبقاه له ، واعلم أنّ الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك. واعلم أنّ أجر الصابرين به فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه.
فإذن مهما دفع الكراهة بالتفكّر في نعمة الله تعالى عليه بالثواب ، نال درجة الصابرين. نعم من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصائب. وقد قيل : من كنوز البرّ كتمان المصائب والأوجاع والصدقة.
فقد ظهر لك بهذه التقسيمات أنّ وجوب الصبر عامّ في جميع الأحوال والأفعال ، فإنّ الّذي كفى الشهوات كلّها واعتزل وحده لا يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد ظاهرا ، وعن الصبر عن وساوس الشيطان باطنا. فإنّ اختلاج الخواطر لا يسكن. وأكثر جولان الخواطر إنّما يكون في فائت لا تدارك له أو في مستقبل لا بدّ أن يحصل منه ما هو مقدّر ، فهو كيفما كان تضييع زمان. وآلة العبد قلبه وبضاعته عمره ، فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنسا بالله تعالى أو عن فكر يستفيد به معرفة بالله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبّة الله تعالى فهو مغبون ، هذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات مقصورا عليه ، ولا يكون ذلك غالبا ، بل يتفكّر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات ، إذ لا يزال ينازع كلّ من تحرّك على خلاف غرضه في جميع عمره ، أو من يتوهّم أنّه ينازعه ويخالف أمره أو غرضه بظهور أمارة له منه ، بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبّه حتّى في أهله وولده ، ويتوهّم مخالفتهم له ، ثمّ يتفكّر في كيفيّة زجرهم ، وكيفيّة قهرهم وجوابهم عمّا يتعلّلون به في مخالفته ، ولا يزال في شغل دائم ، فللشيطان جندان : جند يطير وجند يسير ، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيّار ، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيّار. وهذا لأنّ الشيطان خلق من النار ، وخلق الإنسان من صلصال كالفخّار ، والفخّار قد اجتمع فيه مع النار الطين ، والطين طبيعته السكون والنار طبيعتها الحركة ، فلا يتصوّر نار مشتعلة لا تتحرّك بل لا تزال تتحرّك بطبعها. وقد كلّف المخلوق من النار أن يطمئنّ عن حركته ساجدا لما خلق الله من الطين ، فأبى