فاعلم أنّه إنّما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع وشقّ الجيوب وضرب الخدود والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم ، وهذه الأمور داخلة تحت اختياره ، فينبغي أن يجتنب جميعها ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ويبقى مستمرا على عادته ويعتقد أنّ ذلك كان وديعة فاسترجعت.
[٢ / ٣٨٧٩] كما روي عن الرّميصاء أمّ سليم أنّها قالت : توفّي ابن لي وزوجي أبو طلحة غائب فقمت فسجّيته في ناحية البيت ، فقدم أبو طلحة فقمت فهيّأت له إفطاره فجعل يأكل فقال : كيف الصبيّ فقلت : بأحسن حال بحمد الله ومنّه ، فإنّه لم يكن منذ اشتكى خيرا منه اللّيلة. ثمّ تصنّعت له أحسن ما كنت أتصنّع قبل ذلك حتّى أصاب منّي حاجته ، ثمّ قلت : ألا تعجب من جيراننا! قال : ما لهم؟ قلت : أعيروا عارية فلمّا طلبت منهم واسترجعت جزعوا! فقال : بئس ما صنعوا! فقلت : هذا ابنك كان عارية من الله تعالى وإنّ الله قد قبضه إليه ، فحمد الله واسترجع ، ثمّ غدا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبره ، فقال : «اللهمّ بارك لهما في ليلتهما» (١) قال الراوي : فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة كلّهم قد قرأوا القرآن.
[٢ / ٣٨٨٠] وروى جابر أنّه صلىاللهعليهوآله قال : «رأيتني دخلت الجنّة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة».
وقد قيل : الصبر الجميل هو أن لا يعرف صاحب المصيبة من غيره ، ولا يخرجه عن حدّ الصابرين توجّع القلب ولا فيضان العين بالدمع ، إذ يكون من جميع الحاضرين لأجل الموت سواء ، ولأنّ البكاء توجّع القلب على الميّت ، فإنّ ذلك مقتضى البشريّة ولا يفارق الإنسان إلى الموت.
[٢ / ٣٨٨١] ولذلك لمّا مات إبراهيم ولد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فاضت عيناه! فقيل له : أما نهيتنا عن هذا؟ فقال : «إنّ هذه رحمة وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء» (٢).
__________________
(١) مسند أحمد ٣ : ٢٨٧ ؛ الكبير ٢٥ : ١١٦ والرميصاء بضم الراء صحابيّة.
(٢) رواه البزّار والطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف قال : بعثت ابنة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ ابنتي مغلوبة فقال للرسول : قل لها إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى ثمّ بعثت إليه ثانية فقال لها مثل ذلك ، ثمّ بعثت إليه الثالثة فجاءها في ناس من أصحابه فأخرجت إليه الصبيّة ونفسها تقعقع (أي تضطرب) في صدرها ، فرقّ عليها فذرفت عيناه ففطن به بعض أصحابه وهم ينظرون إليه حين ذرفت عيناه ، فقال : «ما لكم تنظرون رحمة الله يضعها حيث يشاء إنّما يرحم الله من عباده الرحماء». راجع : مسند أحمد ٥ : ٢٠٤ والبخاري ٢ : ٨٠ ومجمع الزوائد ٣ : ١٨. وما عثرت على لفظ ما نقله المصنّف.