واستكبر واستعصى وعبر عن سبب استعصائه بأن قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١).
فإذن حيث لم يسجد إبليس لأبينا آدم عليهالسلام فلا ينبغي أن يطمع في سجوده لأولاده. ومهما كفّ عن القلب وسواسه وعدوانه وطيرانه وجولانه فقد أظهر انقياده وإذعانه. وانقياده بالإذعان سجود منه ـ فهو روح السجود ـ وإنّما وضع الجبهة على الأرض قالبه وعلامته الدالّة عليه بالاصطلاح. ولو جعل وضع الجبهة على الأرض علامة استخفاف بالاصطلاح لتصوّر ذلك ، كما أنّ الانبطاح بين يدي المعظم المحترم يرى استخفافا بالعادة ، فلا ينبغي أن يدهشك صدف الجوهر عن الجوهر وقالب الروح عن الروح وقشر اللبّ عن اللبّ! فتكون ممّن قيّده عالم الشهادة بالكلّيّة عن عالم الغيب ، وتحقّق أنّ الشيطان من المنظرين ، فلا يتواضع لك بالكفّ عن الوسواس إلى يوم الدين إلّا أن تصبح وهمومك همّ واحد ، فتشغل قلبك بالله وحده فلا يجد الشيطان مجالا فيك ، فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين الداخلين في الاستثناء عن سلطنة هذا اللعين.
ولا تظنّنّ أنّه يخلو عنه قلب فارغ ، بل هو سيّال يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وسيلانه مثل الهواء في القدح ، فإنّك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو بغيره فقد طمعت في غير مطمع ، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة ، فكذلك القلب المشغول بفكر مهمّ في الدين لا يخلو عن جولان الشيطان ، وإلّا فمن غفل عن الله تعالى ولو في لحظة فليس له في تلك اللّحظة قرين إلّا الشيطان. ولذلك قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)(٢).
[٢ / ٣٨٨٢] وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله تعالى يبغض الشابّ الفارغ» (٣) وهذا لأنّ الشابّ إذا تعطّل عن عمل يشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه ، كان ظاهره فارغا ولم يبق قلبه فارغا ، بل يعشّش فيه الشيطان ويبيض ويفرخ ، ثمّ تزدوج أفراخه أيضا وتبيض مرّة أخرى وتفرخ ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد سائر الحيوانات ، لأنّ طبعه من النار ، وإذا وجد الحلفاء اليابسة (٤) كثر توالده ، فلا يزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتّة بل تسري شيئا فشيئا على
__________________
(١) الأعراف ٧ : ١٢.
(٢) الزخرف ٤٣ : ٣٦.
(٣) الكافي ٥ : ٨٤ / ٢ ، باب كراهيّة النوم والفراغ ، عن الإمام الكاظم عليهالسلام بلفظ : «إنّ الله يبغض العبد النوّام الفارغ».
(٤) الحلفاء : نبت يشبه سعف النخل ينبت في مغايض المياه.